الصحافة والسياسة في حياة الزعيم المصري محمد فريد | آراء
[ad_1]
لمن يعرف تاريخ الحركة الوطنية المصرية، فإن الزعيم السياسي محمد فريد يمثل نقطة تحول في النضال من أجل دولة دستورية حرة من أي احتلال، ولكن من يدرس تاريخ الصحافة العربية يعرف أيضا أنه أمام رجل خطا بالصحافة السياسية خطوة مهمة إلى الأمام، واعتبر صحفه التي أطلقها وحررها بنفسه من القاهرة وإسطنبول وجنيف وبرلين حجر زاوية في كفاحه ضد الاستعمار والاستبداد، وبهذا فإن أياديه البيضاء لم تقف عند مجال واحد.
كان محمد فريد رفيقا للزعيم المصري البارز الشاب مصطفى كامل الذي مات في ريعان شبابه، وكان كذلك زميله في السلك القضائي، واستقالا سويا ليتشاركا مسيرة الكفاح، فلما مات مصطفى كامل خلفه في رئاسة “الحزب الوطني”، ليدشن مرحلة جديدة من كفاح الحركة الوطنية المصرية، بدأها بحملة صحفية تدعو المصريين إلى التوقيع على عريضة تطالب حاكم مصر الخديوي عباس بإعلان دستور للبلاد.
وفي أيام قليلة من عام 1908، جمع 45 ألف توقيع ورفعها للخديوي، وأدى ذلك إلى تعبئة الشعب؛ فتظاهر طلاب مدرسة الحقوق أمام قصر الخديوي، وثارت مخاوف سلطة الاحتلال الإنجليزي التي لم تعترف للخديوي بحق منح شعبه الدستور، واعتبرت حركة التوقيع على العريضة ضربا من الحماقة والجنون، وأن مصر غير مستعدة للنظام النيابي.
أدت هذه التصريحات إلى اشتعال غضب المصريين؛ فقد عدّها محمد فريد في مقالاته “إهانة للشعب وللخديوي”، وأرسل برقية احتجاج إلى وزير الخارجية البريطاني، يرفض تدخلهم في شأنٍ صاحب السلطة فيه هو الخديوي، وأكد أن مصر أكثر أهلية لحكم نفسها من كثير من الأمم الأوروبية، وأنها ستظل تجاهد في سبيل حريتها واستقلالها.
محمد فريد دشن مرحلة جديدة من كفاح الحركة الوطنية المصرية، بدأها بحملة صحفية تدعو المصريين إلى التوقيع على عريضة تطالب حاكم مصر الخديوي عباس بإعلان دستور للبلاد
وتطور الحراك، فشنت صحف “الحزب الوطني” حملة قوية ضد الاحتلال، مطالبة بالجلاء، وتنامت حركة جمع التوقيعات بين الطلاب وفي الريف، ونظم الحزب عددًا من المظاهرات تطالب بالجلاء والدستور.
وقال المؤرخ عبد الرحمن الرافعي إن هذه الحركة غرست في نفوس المصريين التعلق بالنظام الدستوري، وكراهية الاستبداد، وأيقظت الشعور الوطني، وحشدت الأمة للمطالبة بحقوقها المشروعة، وأنها هي “مصدر السلطات”.
وأدرك الخديوي أن حملة التوقيعات تخدم سلطته وتدعم شرعيته؛ فالشعب يطالبه بالدستور بوصفه الحاكم الشرعي، لكن تهديدات الاحتلال جعلته يحجم عن تأييد الحركة.
وإذا كان النضال من أجل الدستور بدأ بحملة صحفية دعت لجمع التوقيعات، فقد خاضت الصحف الموالية للإنجليز (مثل المقطم) حملة مضادة تهاجم الدعوة للدستور والمجلس النيابي، وتوجه الاتهامات لمحمد فريد والحزب الوطني بالتعصب وإثارة الفوضى.
موعد مع السجن
وبدأ الاحتلال يبحث عن وسيلة لتقييد حرية محمد فريد وحزبه وصحافته ووقف حركة المطالبة بالدستور، وجاءت الفرصة عندما كتب مقدمة ديوان “وطنيتي” للشيخ علي الغاياتي (عضو الحزب الوطني)، وطالب فيها شعراء مصر “باستعمال مواهبهم في خدمة الأمة بدل صرفها في خدمة الأغنياء وتملق الأمراء والوزراء”.
وعندما صدر الديوان كان فريد في أوروبا يقود حركة دفاع عن حق مصر في الجلاء، مولها من ماله الخاص، وبلغه أن المحكمة عاقبت الشيخ الغاياتي بالسجن 6 أشهر مع الشغل، والشيخ عبد العزيز جاويش -كاتب المقدمة الثانية للديوان- بالسجن 3 أشهر، وأنه سيقدم لمحاكمة فور عودته، لكنه قرر العودة إلى مصر رغم النصائح بالبقاء في الخارج. وبالفعل عاقبه قاض بريطاني بعد عودته في 1911 بالسجن 6 أشهر مع النفاذ.
تأثير السجن
رأى الكاتب الصحفي أمين الرافعي -في مقال نشرته جريدة “العلم” في يناير/كانون الثاني 1911- أن قرار سجنه أعطى الحراك الوطني دفعة ما كان لها أن تتحقق بالخطب والمظاهرات والفاعليات، وانضمت إلى هذا الحراك قوى جديدة.
وشعر الاحتلال بذلك الأثر العكسي الذي أحدثه سجن محمد فريد، فأوعز للخديوي أن يعرض العفو عنه، وفعل الخديوي ذلك مشترطا أن يكون العفو استجابة لطلب يقدمه محمد فريد أو أحد من أسرته، لكنه رفض ذلك ومنع عائلته من طلبه، وأعلن أنه “إذا صدر العفو فلن أقبله!”
ومع حلول موعد خروجه، احتالت سلطات الاحتلال لتمنع الاحتشاد لحظة إطلاق سراحه، حتى تمكنت من نقله إلى بيته في الخامسة صباحًا، لكن هذا لم يمنع الشعب من التظاهر احتفالًا بخروجه.
وإلى الصحافة مرة أخرى عاد محمد فريد ليكتب مقاله “من سجن إلى سجن”، الذي اعتبر فيه أنه “خرج من السجن إلى سجن الأمة المصرية الذي تحده سلطة الفرد، ويحرسه الاحتلال”، وأضاف “لم أشعر بأي انشراح عند حلول أجل مفارقتي لهذه الغرفة الضيقة التي قضيت فيها ستة أشهر كاملة، لعلمي أني خارج إلى سجن أضيق، ومعاملة أشد، إذ أصبح مهددًا بقانون المطبوعات، ومحكمة الجنايات، محرومًا من الضمانات التي منحها القانون للقتلة وقطاع الطرق؛ فلا أثق أني أعود لعائلتي إن صدر مني ما يؤلم الحكومة من الانتقاد، بل ربما أؤخذ من مكان عملي إلى النيابة، فالسجن الاحتياطي، فمحكمة الجنايات إلى السجن النهائي، وستبقى حالتنا كذلك حتى نسترد الدستور، وتفي إنجلترا بوعودها المتكررة، فتجلو عن بلادنا”.
ويضيف جانبًا مهمًا “حكم عليّ بالحبس فلاقيت من قومي عطفًا عظيمًا، ومن جميع الجرائد المصرية على اختلاف مذاهبها، ومن جرائد أحرار العالم الأوروبي والعالم الإسلامي أجمع ما لم يسمح قانون المطبوعات لجرائدنا بنقله”.
إلى المنفى
ولم يكن السجن الابتلاء الوحيد؛ فقد كان المنفى ابتلاء أقسى منه، وعاشه محمد فريد فلم يستسلم، بل طور أساليب جديدة للكفاح لتحرير مصر، وظل على ذلك إلى آخر لحظة من حياته.
كان منفاه قرارا اختياريا نضاليا خالصا، نصحه به قادة حزبه بعد أن توالت محاولات سجنه بسبب خطاب أو مقال، فأقنعوه بأن متاعب النفي وشدائده أهون من البقاء رهين السجون، ممنوعًا من الحركة، مغلول القلم، معقود اللسان، ودبروا خروجه على سفينة روسية متجهة من الإسكندرية إلى إسطنبول في مارس/آذار 1912، من دون علم سلطات الاحتلال.
في إسطنبول، استقبلته الحكومة العثمانية بالترحيب، واستدعت عائلته لتقيم معه، وتحوّل بيته إلى مركز لإدارة الكفاح ضد الاحتلال البريطاني، ومجددا عاد للصحافة فبدأ ينشر مقالاته في جريدة “الهلال العثماني” التي كان يصدرها الشيخ عبد العزيز جاويش باللغة العربية بعد خروجه من مصر، كما كان يكتب مقالات بالفرنسية في جريدة “الجون ترك” التي كان يصدرها جلال نوري.
عندما اشتعلت ثورة 1919 كان المرض قد اشتد على محمد فريد، فأرسل للمصريين رسالة تدعوهم للتضامن “في المطالبة بحق أمتنا المظلومة”، وما لبث بعدها أن مات غريبا منفيا في برلين
صوت مصر في العالم
سافر محمد فريد إلي جنيف في سبتمبر/أيلول 1912 لحضور مؤتمر دولي للسلام، حيث نجح في إقناع الوفود المشاركة بإصدار قرار يعترف بحق مصر في الجلاء، ويطالب بريطانيا به خدمة للسلام العام، وشكل هذا نصرا زاد الحفاوة بجهاده وجهوده في مصر، كما أبرزه في الدول الأوروبية كزعيم مصري، يمكن التفاوض معه، فبدأ بعد ذلك التجول في أوروبا.
أما سلطات الاحتلال في مصر فقد أغضبها القرار، فكثفت إجراءاتها لتعطيل الصحف المصرية، لا سيما جريدة “العلم” لسان الحزب الوطني، وزادت ملاحقة المطالبين بالاستقلال والجلاء لدفعهم إلى إيقاف أنشتطهم، ثم جاءت الاضطرابات التي شهدتها أوروبا بسبب الحرب البلقانية، ثم اشتعال الحرب العالمية الأولى عام 1914؛ لتزيد عنفهم في مصر، فزاد اضطهاد الحركة الوطنية، ووقف نشاطها السياسي والصحفي.
كانت له أيضا في تلك المرحلة في جنيف جهودا لتوحيد الشعوب الإسلامية في المعركة ضد الاستعمار، فأنشأ جمعية “ترقي الإسلام “، وهدفها تقوية الروابط بين الأمم الإسلامية، وبعث النهضة الفكرية والاقتصادية فيها، وأصدرت الجمعية مجلة باللغة الفرنسية كان يشرف على إدارتها وتحريرها، ويكتب معظم مقالاتها داعيا المسلمين لتحرير أوطانهم من الاحتلال، وظلت تصدر حتى أوقفتها السلطات السويسرية بسبب الحرب العالمية الأولى. وكان من المدهش أن الجمعية ضمت عددا من المسيحيين ومفكرين وأدباء أوروبيين؛ فتحولت إلى ما يشبه “عصبة الأمم الشرقية”.
ولم يخل الأمر من ملاحقات بريطانية في أوروبا، فعندما سافر إلى هولندا عام 1913 لحضور مؤتمر سلام، دبرت مؤامرة لاعتقاله، عبر خبر يتحدث عن خطة لاغتيال اللورد كتشنر (المندوب السامي البريطاني في مصر) عبر مجموعة من الطلاب المصريين في لندن مرتبطين بمحمد فريد، ولما علم بالخبر الملفق غادر هولندا مسرعا إلى باريس ومنها إلى جنيف في ديسمبر/كانون الأول 1913.
تبين بعد ذلك كذب الخبر، واضطرت بريطانيا للسماح له بالسفر إلى لندن لحضور مؤتمر “الأجناس المضطهدة” عام 1914، وفي هذا المؤتمر رفع شعار “مصر للمصريين” (الذي تحول إلى شعار للحركة الوطنية المصرية)، وطالب بجلاء الإنجليز عن مصر وتحرير الصحافة.
من الدستور إلى الثورة
مع عودته من ذلك المؤتمر في لندن كانت جهوده قد أثمرت ثمرتها الأولى، فقد طلب الخديوي عباس لقاءه في إسطنبول للصلح، وقبل طلبه بإعلان الدستور، وأصدر بذلك منشورا للأمة، وهنا جاء رد الاحتلال عنيفا فأعلن الحماية على مصر، وخلع الخديوي عباس، ونصب أخاه السلطان حسين كامل.
في مواجهة ذلك، أعلن فريد الانضمام إلى ألمانيا وتركيا والنمسا ضد بريطانيا، ورفض محاولات سلطات الاحتلال للتفاوض معه، ودعا الشعب إلى أن يثور، وهو ما حدث بعد ذلك بسنوات قليلة (عام 1919) عندما خرج الشعب في ثورة ترفع شعاره: “مصر للمصريين”.
قضى فريد سنوات “الحرب الأولى” داعيا الساسة الأوروبيين لتأييد استقلال مصر، وأصدر صحيفة “صدى مصر” الناطقة بالفرنسية، لكن سويسرا عطلتها بدعوى تعارضها مع سياستها في الحياد، فانتقل إلى برلين، ومنها أرسل للرئيس الأميركي ويلسون -مع نهاية الحرب- يدعوه إلى دعم استقلال مصر بعد أن كان أعلن تأييده حق الأمم في تقرير مصيرها.
عندما اشتعلت ثورة 1919 كان المرض قد اشتد عليه، فأرسل للمصريين رسالة تدعوهم للتضامن “في المطالبة بحق أمتنا المظلومة”، وما لبث بعدها أن مات غريبا منفيا، فدُفن في برلين حتى تمكنت الحركة الوطنية من نقل رفاته إلى مصر في يونيو/حزيران 1920.
Source link