نوبل للفيزياء 2023.. أسرع ومضة ضوء في التاريخ كله
[ad_1]
كان ليلاند ستانفورد حاكما أسبق لولاية كاليفورنيا الأميركية ويُعد أحد أشهر وأكبر مالكي الخيول في البلاد كلها، شاركت أحصنته في العديد من المنافسات، وهو نطاق يشيع فيه الرهان على الأحصنة وأي أمر متعلق بها، نحو منتصف عام 1878 دخل ستانفورد في رهان مع بعض أصدقائه الأغنياء حول سؤال بسيط: أثناء جري الحصان، هل يرفع أقدامه الأربعة عن الأرض أم يترك واحدة منها على الأقل ملامسة للأرض؟ كان ستانفورد يرى أن الحصان يرتفع بكل قوائمه.
كانت الكاميرات في ذلك الوقت لا تزال ضعيفة، وبالتبعية لم توجد طريقة للإجابة عن هذا السؤال، لكن بإيعاز من ليلاند قام إدوارد مويبريدج، وكان مصورا بارعا في التقاط صور للمناظر الطبيعية، وقتها بالتقاط مجموعة من الصور لحصان يجري بأحد الحقول، للوصول إلى النتيجة المرجوة استخدم صديقنا فكرة بسيطة لكنها ذكية جدا، حيث قام بوضع 12 كاميرا لتلتقط كلٌّ منها صورة للحصان وهو يجري، ولكن بفارق زمني يسير جدا بين عمل كل كاميرا والأخرى، ثم بعد ذلك قام بدمج الصور معا لعمل أول فيلم صامت قصير في التاريخ، ليؤكد بالفعل أن الحصان يرفع حوافره الأربعة عن الأرض أثناء الجري، ويربح ليلاند الرهان.
وصلت سرعة كاميرات مويبريدج أثناء التقاطها للصور إلى واحد من ألفي جزء من الثانية، الأمر الذي تطور مع الزمن عبر نحو قرن ونصف وصولا إلى الثالث من أكتوبر/تشرين الأول 2023، حيث حصل الفرنسي بيار أغوستيني والهنغاري النمساوي فيرينس كراوس والفرنسية السويدية آن لويلييه على جائزة نوبل في الفيزياء، وذلك لبنائهم طرق تجريبية ذكية جدا ودقيقة جدا تولد نبضات ضوئية بسرعة “الأتوثانية” (Attosecond) لدراسة الإلكترونات القابعة فى تركيب المادة! فقط تخيل أن خيول ستانفورد هي الإلكترونات التي تتحرك داخل الذرات وما بينها، وأن كاميرا مويبريدج هي نبضات الضوء السريعة تلك، لكن مع فارق هائل لا تتصور حجمه.
أصغر من أصغر شيء تعرفه
أول شيء ينبغي الإشارة إليه هو أن الذرات صغيرة جدا، صغيرة لدرجة أنك لو قمت بقياس عرض شعرة واحدة من رأسك لوجدت أنه يساوي نحو 500 ألف ذرة كربون، تتكون الذرات من جسيمات تقع داخلها، ولو مثَّلنا الذرة الواحدة وكأنها قاعة أوبرا ضخمة ثم وضعنا حبة أرز على طاولة بمنتصف القاعة، فإن هذه الحبة تُمثِّل نواة الذرة، بينما تجري الإلكترونات على جدران القاعة بحجم حبات رمل غير مرئية من صغر حجمها.
ومثل حجمها، فإن النطاق الزمني لحركة الإلكترونات قصير بشكل لا يصدق، حيث يحدث في نطاق الأتوثانية، وهي وحدة زمنية تساوي 1 على ألف على ألف على ألف على ألف على ألف على ألف جزء من الثانية، الأتوثانية قصيرة جدا لدرجة أن عددها في الثانية الواحدة هو عدد الثواني نفسه الذي انقضى منذ ظهور الكون قبل 13.8 مليار سنة. ولو أن ومضة من الضوء مرت عبر نافذة حجرتك الآن فإنها ستستغرق عشرة مليارات أتوثانية!
يذكرنا ذلك بإنجاز العالم المصري أحمد زويل، ود لو يعرف كيف تتم التفاعلات بين الجزيئات الكيميائية في نطاق الفيمتو ثانية، وكان للتقنية التي طورها وحصل بسببها على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999 تطبيقات واعدة، لأنها مكّنت العلماء من رصد التفاعل الكيميائي أثناء حدوثه، لكن دراسة حركة الإلكترونات أمر أدق، احتاج العلماء بالتبعية إلى نطاق أدق من الفيمتو ثانية وهو الأتوثانية، ولفهم الفارق بينهما فالفيمتو ثانية تحتوي داخلها على ألف أتوثانية! كان يُنظر إلى هذه الفيمتو ثانية منذ فترة طويلة على أنها الحد الأقصى لنبضات الضوء التي يمكن إنتاجها، لكنّ الفائزين هذا العام أجروا تجارب فتحت المجال البحثي الجديد أمام فيزياء الأتوثانية.
موجات الضوء
تعلمنا في المدارس صغارا أن الضوء يجري في صورة موجات تشبه موجات البحر، لو أنك الآن تقف على الشاطئ لوجدت أن هناك أنواعا عديدة من الموجات، فبعضها مرتفع وبعضها منخفض، وبعضها يأتي بتردد سريع فيضرب قدميك كل ثانية والبعض الآخر يضرب قدميك كل عدة ثوانٍ، وتسمى المسافة بين قمتي موجتين في الفيزياء بالطول الموجي.
ومثلما تضرب الموجات قدميك بتردد مختلف، فإن الضوء كذلك يتكون من سبعة ألوان، ولكلٍّ من تلك الألوان تردد مختلف أيضا، فكما أن هناك موجة تضرب قدميك كل ثلاث ثوان، فستضرب موجات اللون الأحمر قدميك بمعدل أربعمئة وثلاثين ألف مليار مرة في الثانية تقريبا، وكما أن المسافة بين قمة الموجة وقمة الموجة التالية هي نحو 3 أمتار، فإن موجات الضوء الأحمر لو كانت في البحر فإن المسافة بين قمتين متتاليتين للضوء الأحمر تساوي تقريبا 700 نانومتر (مليمتر واحد يحتوي مليون نانومتر).
لكن للوصول إلى أسرع نبضة ضوء في التاريخ (في نطاق الأتو)، احتاج العلماء إلى تقصير طول موجة الضوء إلى مستوى دقيق جدا، أدق بكثير مما ذكرناه قبل قليل، وهو مستوى ظن العلماء في السبعينيات والثمانينيات من القرن الفائت أنه غير ممكن، لكن آن لويلييه في عام 1987 توصلت إلى أن من الممكن إنتاج موجات قصيرة كفاية لتدخل في نطاق الأتوثانية بطريق غير مباشر، عبر تمرير شعاع ليزر من الأشعة تحت الحمراء في غاز خامل كالأرجون أو النيون، تتفاعل ذرات هذا الغاز مع ضوء الليزر فتصنع “نغمات متجاوزة”، يشبه الأمر ما يحدث في حالة الغيتار، هل جربت أن تعزف على هذه الآلة من قبل؟
حينما تضرب وتر الغيتار فإنك تسمع نغمة محددة جميلة، لكن إذا وقفت بإصبعك على مكان ما على هذا الوتر فإن النغمة يتغير صوتها، وإذا غيرت موضع يديك على الوتر فإن صوت النغمة يتغير، يحدث ذلك لأن الصوت يتناسب مع الموجات المتجاوزة التي صنعتها للتو بيديك على وتر الغيتار، وكلما وضعت يديك على أي موضع مختلف على الوتر، فإنك تقوم بصناعة نغمات إضافية متجاوزة، فمثلا وضع يديك في منتصف الوتر يحول الموجة الكبرى للوتر إلى موجتين، وهكذا يمكن صناعة ثلاث أو أربع نغمات مختلفة بالطريقة ذاتها.
قفزات الإلكترون المتوتر!
أسست لويلييه عبر هذه التجارب التي استمرت خلال التسعينيات من القرن الفائت لفيزياء الأتوثانية، لكن كانت هناك حاجة إلى تطوير التقنيات المتعلقة بهذا الأمر، ولفهم ما تلا ذلك دعنا نرجع إلى ألبرت أينشتاين، الذي قال قبل أكثر من مئة عام إنه حينما تكون الذرات مُثارة، فإنها تعود لحالاتها الطبيعية عبر فقد حزمة من الضوء، نسميها الفوتونات.
نتخيل (فقط لغرض التقريب لأن الواقع ليس كذلك أبدا) أن الإلكترونات حول نواة الذرة هي أشخاص يقفون على درجات سلم، بعضهم قريب من الأرض وبعضهم يقف على مقربة من سطح المنزل، وكلٌّ منهم لا يمتلك من الطاقة ما يدفعه للصعود درجة إضافية، لكن هب أننا أعطينا مشروب طاقة للشخص الذي يقف في الدرجة ما قبل الأخيرة، هنا قد يمتلك قدرا من الطاقة ليصعد درجة للأعلى، لكنه يتوتر بسبب مشروب الطاقة وينتظر حتى يهدأ ويفقد تلك الطاقة، ومن ثم يعود إلى موضعه.
الذرات كذلك، حينما تقدم لها قدرا من الطاقة (بسبب شعاع ليزر مثلا) فإن الإلكترونات في مداراتها حول النواة تمتص تلك الطاقة وتصعد من مدار أقل إلى مدار أعلى، لكنها بعد فترة (وهي قصيرة للغاية بحيث لا يمكن تخيلها) تهدأ وتفقد تلك الطاقة ويعود الإلكترون من جديد إلى مداره. في أثناء عودته يطلق الإلكترون تلك الطاقة التي اكتسبها، في صورة حزم من الضوء في نطاق الأشعة فوق البنفسجية، هي المسؤولة عن ظاهرة النغمات المتجاوزة التي تحدثنا عنها قبل قليل.
وبمجرد صدور هذه النغمات المتجاوزة من الإلكترونات العائدة لمداراتها، وبصورة كثيفة خلال التجارب، فإنها تتفاعل مع بعضها بعضا، ليصبح الضوء أكثر كثافة عندما تتزامن قمم الموجات الضوئية، لكنه يصبح أقل كثافة عندما تتزامن قيعان الموجات الضوئية، وفي الظروف المناسبة تتطابق النغمات بحيث تصدر سلسلة من نبضات الضوء فوق البنفسجي، يبلغ طول كل نبضة بضع مئات من الأتوثانية.
فهم بيير أغوستيني ومجموعته البحثية في فرنسا دور النغمات المتجاوزة في إنتاج نبضات ضوئية في نطاق الأتوثانية، وطورها لتصبح نبضات متتالية تشبه في تتابعها عربات القطار، ومن خلال تجاربه في بدايات الألفية استطاع الحصول على نبضات ضوء استمرت 250 أتوثانية فقط.
في الوقت نفسه، كان فيرينك كراوس ومجموعته البحثية في النمسا يعملون على تقنية يمكنها انتقاء نبضة واحدة فقط، مثل فصل عربة عن قطار وتحويلها إلى مسار آخر، واستمرت النبضة التي نجحوا في عزلها لمدة 650 أتوثانية. والآن، بناء على ما قام هذا الثلاثي بإنجازه، أصبحت فيزياء الأتوثانية أكثر دقة، وحاليا يمكن للعلماء إنتاج نبضات ضوئية تصل مدتها إلى بضع عشرات من الأتوثانية فقط.
على أكتاف مَن سبقوني
فتحت نبضات الضوء في نطاق الأتوثانية الباب لرصد حركة الإلكترونات، التي توجد في كل شيء بالكون بما في ذلك أجسامنا نفسها. وبالتبعية يمكن استخدام نبضات الأتوثانية لاختبار العمليات الداخلية للمادة أيًّا كانت صورتها، وبذلك فتحت الباب لتطبيقات جديدة واعدة في نطاقات عدة، فقط تخيل أن الإلكترونات كانت صندوقا أسودَ مغلقا لم يتمكن أي إنسان من فتحه، وفي كل مرة ظهرت فيها الإلكترونات في تفاعل ما أو معادلة رياضية واجهنا قصورا في الفهم، لأننا نجهل ما يحدث داخل هذا الصندوق، الآن انفتح هذا الصندوق وتمكّنّا من تحقيق بعض الفهم للسلوك فائق السرعة للإلكترونات داخل الذرات والجزيئات.
يعني ذلك تطورا في نطاقات عدة، فمن خلال فهم نقل الإلكترون وآليات التحكم فيه على المستوى الذري يمكن تطوير مفاتيح وترانزستورات فائقة السرعة تعتمد على تفاعلات تحدث في نطاق الأتوثانية. وبالطبع سيؤثر ذلك في التشخيص الطبي، حيث يمكن بناء صور أدق لأجهزة الجسم عبر تتبع حركة الإلكترونات في كل ذراته، وبناء صور أشعة هي الأدق في التاريخ.
هذا بالإضافة إلى تقنيات القياس، حيث يمكن للقياس الدقيق للفترات الزمنية على مقياس الأتوثانية أن يعزز قدرتنا على قياس الثوابت الفيزيائية الأساسية بدقة، ويمكن استخدام ليزر الأتوثانية لتسريع الجسيمات إلى طاقات عالية عبر مسافات قصيرة جدا، مما قد يُحدث ثورة في مسرعات الجسيمات. وكذلك تساعد دراسة الظواهر المغناطيسية في نطاقات زمنية كهذه على فهم كيفية استجابة المواد المغناطيسية للمحفزات الخارجية، ويمكن أن تؤدي إلى تقدم في تكنولوجيا تخزين البيانات.
ومن خلال التحكم في التفاعلات الكيميائية بدقة الأتوثانية، من الممكن معالجة مسارات التفاعلات الكيميائية وفتح الباب لتطبيقات مختلفة مثل اكتشاف الأدوية الجديدة، وبالطبع يمكن أن تساهم القدرة على التعامل مع الحالات الكمومية على نطاقات زمنية تبلغ الأتوثانية في تطوير أجهزة حاسوب كمومية أسرع وأكثر كفاءة.
هل تلاحظ ذلك؟ إنها خطوة صغيرة لثلاثة باحثين، لكنها قفزة كبيرة للبشرية جمعاء ما زلنا في بدايات تطبيقاتها الواعدة، واللافت للانتباه في هذا السياق أن العلم لا يقف، ما زلنا عاما بعد عام نحتفل بإنجازات أحمد زويل، لكننا الآن في مواجهة مَن تلاه وحقق نتائج أدق اعتمادا على ما بناه زويل، الذي اعتمد هو نفسه على ما بناه سابقوه، أو كما قال نيوتن ذات مرة: “لقد رأيت أبعد من غيري لأنني أقف على أكتاف العمالقة من العلماء الذين سبقوني”.
____________________________________________
مصادر:
1- The Nobel Prize in Physics 2023
Source link