الروح القتالية ودورها في الحرب الطويلة | أخبار
[ad_1]
من وسط الغبار الكثيف الذي خلفته صواريخ الإبادة الإسرائيلية يبدو وجه شاحب يقطر عرقا وغضبا، يحمل بين يديه جسد ابنته الذي انتشله من بين الأنقاض، ويصيح في وجه أول عدسة هاتف توثق مأساته “والله ما احنا منهزّين (لن تهزّونا)”، ثم يرفع يده بشارة النصر “والله ما غير ندخل تل أبيب (والله لندخلن تل أبيب)”، ثم يستدبر الكاميرا ويركض بحثا عن عربة تحمله إلى المشفى أو تحمل ابنته إلى المدفن.
طبيبة منهمكة في عملها في مشفى في غزة يصلها خبر استشهاد زوجها فتخرج بين الناس ترفع شارة النصر وهي تردد “زوجي استشهد يا جماعة، زوجي استشهد.. أشهد أن لا إله إلا الله”، ثم ينتهي مقطع الفيديو والطبيبة تسير بين الناس تبشرهم باستشهاد زوجها، وتتصبر بحبس دموعها.
أم محمد من غزة تتلقى اتصالا من صديقتها لتطمئن عليها وتثبّتها، فترسل إليها أم محمد مقطعين صوتيين بصوت تملؤه السكينة وتقول “أعرف أنك ترسلين لي لتصبريني وتثبّتيني، لكني أريد أن أقول لك شيئا: نحن من يريد أن يثبّت ويصبّر من هم خارج غزة، لأننا وصلنا.. وعقيدتنا ثبتت، وأرانا الله أشياء تثبتنا وتقوينا، اليوم كان القصف مريعا، لم أشهد في حياتي صوتا أشد وأشنع منه، لكني دعوت بأن يلقي الله أمنة من النعاس على أولادي، ووالله العظيم لم يستيقظ أحد منهم رغم أن المكان من حولنا يتساقط قطعا وشظايا، وتطغى الأصوات المخيفة ولكن لم يستيقظ أحد منهم”.
ثم يأتي صوت انفجار حاد، وينقطع صوتها لتعود بتسجيل ثانٍ بعد فترة “آسفة، القصف شديد، آسفة أكثرت عليكم لكني أريد أن تفهموا هذا المعنى جيدا، لا أدري متى سأحدثكم مرة أخرى، لأن الوضع صار صعببًا، لكن افهموا عني، افهموا جيدا التاريخ يتغير، والتاريخ قد يكتبه الخونة، وسيزوّرون ما حصل، إذا لم يمكّن الله لنا والله أعلم، إن شاء الله ربنا بيمكّن لـ…”، ثم يدوي صوت انفجار أعنف من الأول.
الحرب الطويلة
منذ الأيام الأولى كان التوجه في إسرائيل ليكون الرد على المفاجأة القسامية بحرب طويلة المدى، فحسب تقارير إعلامية أبلغ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الرئيس الأميركي أنه يستعد لدخول القطاع، وأن الحرب ستكون طويلة وغير مسبوقة.
وأمس صرح نتنياهو بأنه سيقتل “كل شخص ينتمي لحركة حماس”، وهو تصريح يحيل إلى عنصر رئيسي في الحروب الطويلة لا يتعلق بالاستعدادات المادية، بل بالروح القتالية والمعنوية التي تلعب دورا أساسيا خلال الحروب الطويلة.
فعلى مدى 16 عاما يعيش مدنيو غزة حصارا خانقا وقصفا موسميا مروعا، لكن روحهم المعنوية وصمودهم اللذين يظهران من خلال تصريحاتهم في أوقات المحنة مثيران للإعجاب.
كما أن ثبات المقاومة وصمود عناصرها أمام خلف خطوط العدو وتكبيده خسائر فادحة في المواجهات المباشرة يحيلنا إلى عنصر الروح القتالية وتأثيرها في هذه المعركة التي ترجح فيها كفة ميزان القوى لفائدة الجيش الإسرائيلي.
طريق هوليود
يظهر المجند الإسرائيلي وهو يمسح خده الحليق في توتر، والصدمة ما زالت تحبس لسانه عن الحديث، فيشرد بنظره فيقول “حين سمعنا الصواريخ هربنا من الحفل الراقص إلى مواقف السيارات، لم أكن أفكر سوى في الهرب، جلست في مقعد السائق وطلبت من أصدقائي أن يوجهوني، سمعنا الصواريخ مرة أخرى، خرجت أنا وصديقتي من السيارة نركض في البرية، دوّى انفجار آخر، فرمينا أنفسنا على الأرض”، هذه شهادة المجند الإسرائيلي شاي وينستاين لقناة “آي بي سي نيوز” على اقتحام جنود القسام حفلة راقصة لجنود الاحتلال الإسرائيلي.
فعلى بعد كيلومترات في “غلاف غزة” عقد جنود الاحتلال حفلة غنائية في فترة لم يكن عليهم أن يرتدوا بدلاتهم العسكرية، فاستغلت وسائل الإعلام الغربي ذلك لتصور العملية على أنها هجوم على مدنيين.
تبدو صورة الجندي الإسرائيلي الذي لا يُقهر صورة صُنِّعت بعناية في الإعلام الغربي، وتحصد “هوليود” ذروة هذه الصورة باستثمارها مجندات تعلمن مبادئ الفنون القتالية والتعامل مع الأسلحة، وصرن مؤهلات لنجومية أفلام الحركة، ولكن ما هي قوة “الروح القتالية” للجندي الإسرائيلي في مواجهته تحديات خطيرة بعيدا عن أجواء النجوم وأضواء الكاميرات؟
“يهيمن الإسرائيليون على مجال الدراسات النفسية الحربية”، يقول محمود أبو عادي الكاتب المتخصص في علمي النفس والاجتماع.
ويضيف أبو عادي “معظم الدراسات تتناول جيشهم بالدرجة الأولى، وهذا الاهتمام يعكس حاجة لدى إسرائيل، لأن العلوم الاجتماعية لا تتطور من فراغ”.
وعن الحوافز المعنوية للجندي الإسرائيلي، يقول أبو عادي “إن الدراسات تشير إلى أن الجندي الإسرائيلي يعاني من مشكلة في التحفيز للقتال في لحظات الاشتباك، وهي الإرادة التي تحمله عادة على الاستمرار”.
انعدام حوافز
ويضيف “يقسِّم المختصون التحفيز إلى ثلاثة مستويات: حافز “ابتدائي” ينقل الشخص من مواطن عادي إلى مجند في الجيش، وحافز “مستدام” يحمله على الاستمرار في الجيش، وحافز “التحفيز للقتال” يؤثر على أدائه في أرض المعركة وفي لحظات الاشتباك، ويواجه الجيش الإسرائيلي إشكالية في التحفيز على مختلف مستوياته.
فعلى مستوى “الحافز الابتدائي” يواجه الجيش إشكالية التهرب من التجنيد العسكري، ففي يناير/كانون الثاني 2021 وقّع 60 إسرائيليا لم يبلغوا سن التجنيد بيانا أعلنوا فيه امتناعهم عن التجنيد في الجيش، وفي 13 أبريل/نيسان الماضي دعت منظمة العفو الدولية إسرائيل لإطلاق سراح يوفال داغ ذي العشرين ربيعا الذي اعتقل في سجن “نبي تسيدك” العسكري في تل أبيب، بسبب رفضه الالتحاق بالجيش لأداء الخدمة العسكرية الإلزامية.
أما على مستوى حافز “الاستدامة” فإن نسبة التهرب من الخدمة آخذة بالازدياد بين الجنود، بحسب عدنان أبو عامر الأكاديمي والكاتب في الشأن الإسرائيلي الذي يقول في مقال بموقع الجزيرة نت “ارتفعت نسبة من لا يخدمون في الأعوام الـ40 الفائتة بشكل متسارع، وبينما بلغت عام 1980 قرابة 12% ارتفعت إلى 32% في 2020”.
معضلة نفسية
وفي أواخر أيار/مايو الماضي أقامت لجنة الشؤون الخارجية والأمن تحت رئاسة عضو الكنيست يولي إدلشتاين اجتماعا لمعالجة زيادة عدد حالات الانتحار في الجيش الإسرائيلي، وذلك بحسب صحيفة معاريف الإسرائيلية.
وقد سُجلت خلال الأعوام الماضية حالات انتحار بمتوسط 40 حالة سنويا، وفقا لعميد “مديرية القوى العاملة” في جيش الاحتلال يورام كنافو، وفي عام 2022 أفادت آخر البيانات بأن 14 جنديا أنهوا حياتهم.
وتعكس توصيات الكنيست للجيش المعضلة النفسية التي يعانيها الجنود الإسرائيليون، ففي مطلع العام الجاري وجهت نائبة وزير المالية للشؤون الاجتماعية الإسرائيلية ميشال فالديغر رسالة إلى رئيس الأركان هرتسي هاليفي ووزير الدفاع يوآف غالانت تفيد بأن على الجيش أن يعطي أهمية قصوى للحصانة النفسية لجنوده.
كما طلبت عضوة الكنيست الممثلة لحزب الصهيونية الدينية من كبير مسؤولي الصحة النفسية في جيش الاحتلال الاجتماع من أجل بحث علاج الأزمات النفسية في الجيش، وطلبت من رئيس الأركان أن يجعل هذه القضية ذات أولوية عليا.
ولا تتوقف الإشكالات النفسية لدى الجنود المنتظمين في الخدمة فقط، وإنما تمتد لجنود الاحتياط، فنجد لها نمطا تصاعديا في كل مواجهة مسلحة، حيث وثقت وزارة الصحة الإسرائيلية في العام الذي أعقب عملية “سيف القدس” تسجيل 3569 زيارة واتصالا إلى مراكز الدعم النفسي، لطلب المساعدة في مدن سديروت وعسقلان ومستوطنات غلاف غزة.
ويذكر التقرير السنوي لضحايا الصدمات في إسرائيل لعام 2022 -والذي قدم إلى الرئيس الإسرائيلي- أن هذا العام شهد زيادة كبيرة في عدد الاتصالات لتلقي الدعم لدى جمعية “ناتال”، وذلك على خلفية العمليتين العسكريتين اللتين وقعتا خلال تلك الفترة.
وتلقت خطوط الاتصال المخصصة للجمعية خلال عملية “الدرع والسهم” أكثر من 1300 مكالمة، ووفقا لبيانات الجمعية، كانت هناك زيادة بنسبة 340% في المكالمات تتزامن مع وقوع العمليات الفدائية التي تستهدف الداخل الإسرائيلي.
في المقابل، تتلخص عقيدة مقاتل المقاومة الفلسطينية في خمس كلمات يختم بها أبو عبيدة بياناته، وهي “وإنه جهاد، نصر أو استشهاد”، وهو ما يعني أن المقاتل الفلسطيني متشبع بحوافز معنوية متصلة بالدين والعقيدة، وتنقسم حوافزه إلى تحقيق هدف دنيوي بتحرير أرضه، أو الموت في سبيل هذا الهدف فينال الشهادة.
وبناء عليه فحين يقرر الجيش الإسرائيلي الاجتياح البري لقطاع غزة فسيكون جنوده وجها لوجه مع مقاتلي المقاومة الفلسطينية، وخلال المعركة ستكون الروح القتالية أحد أهم عناصر الحسم في المواجهة.
Source link