من سيرة “أبو جهاد”.. كيف تمارس حركات المقاومة الدبلوماسيَّة؟ | آراء
[ad_1]
للقائدِ الفلسطينيّ الشهيد خليل الوزير “أبو جهاد” سيرةٌ ملهمةٌ، فمنه نتعلّم كيف أنَّ حركات المقاومة تحتاج أيضًا إلى العمل الدبلوماسيّ، وإلى العَلاقات الدوليَّة، وهو عمل احترفه وبرع فيه جنبًا إلى جنبٍ مع قيادته المقاومةَ المسلحة.
أثّرت سيرةُ “الخليل” على حياتي الشخصيَّة، فأهديت له كتابي الأول: “الانتفاضة الفلسطينية: ثورة الذّات الحضارية”، حيث كنت مهتمًا بالدعوة لبناء نظام إعلامي عالمي جديد في مُواجهة سيطرة الولايات المتحدة الأميركيّة وأوروبا على النظام الإعلاميّ العالميّ، واستخدامه في فرضِ الاستعمار الثقافيّ والتبعيّة والاستغلال الرأسمالي.
كانَ “أبو جهاد” صاحبَ رؤية تقوم على أنَّ الصراع في فلسطينَ هو نقطةُ الارتكاز في الصراع العالمي، يتوقف عليها إلى حدّ كبير مصيرُ الشمال والجنوب، ومعطياتُ الجغرافيا السياسية تؤكّد أنّ مستقبل هذا الصراع سيؤثر على مستقبل العالم كلّه.
البعد العالميّ للقضية الفلسطينية
لذلك سعى “أبوجهاد” لربط قضيّة فلسطين بقضايا التحرر الوطني، وإقامة عَلاقات مع الحركات التي تكافح ضد الاستعمار والتبعيَّة في أنحاء العالم، ونجحَ بالفعل في تحويل قضية فلسطين إلى قضية عالمية، وكانت الثورة الجزائرية العظيمة من أهمّ ثورات التحرير الوطني التي ألهمته، وشكّلت رؤيته للكفاح لتحرير فلسطين.
ليس غريبًا، إذن، أن يذهبَ الزعيم الأسطوري للمقاومة الفيتنامية الجنرال فو إنجوين جياب إلى مقرّ سفارة منظمة التحرير الفلسطينية في هانوي ليؤدّي التحيّة العسكرية لـ “أبو جهاد”، بعد استشهادِه، وليكتب في سجلّ التعازي، مشيدًا بدعم “أبو جهاد” للشعب الفيتناميّ، ومؤكدًا ثقتَه في أنَّ الثورة الفلسطينية ستنتصرُ في النهاية، كما انتصرَ الفيتناميون على الأميركيين.
وكان “أبو جهاد”، بدوره، يرى في النّصر الذي حققه الفيتناميون إلهامًا للمقاومة الفلسطينيّة لتحقيق نصر حاسم على إسرائيل.
هل كان مجرّد رجل حرب؟!
توضّح سيرةُ الرجل أنَّه كان مخطِّطًا عسكريًا استراتيجيًا، وأنّه قاد المقاومة الفلسطينيّة لفترة طويلة من الزمن لتنفيذ عمليات فدائيّة بطولية عديدة منذ تأسيس قوات “العاصفة”، وهي الجناح العسكريّ لمنظمة التحرير الفلسطينية، وتبنِّي استراتيجية الكفاح المسلح، مهما ضعفت الأدوات.
لكنه لم يكن ذلك فحسب، بل كان كاتبًا ومفكّرًا، مارس الكتابة قبل تأسيس مُنظّمة التحرير الفلسطينية، وعُهدَ إليه برئاسة تحرير مجلّتها بعدها ليكونَ اللسان الناطق للنضال الفلسطينيّ، وكانت آراؤه ترسخُ فكرة أن نظرية العنف الصهيوني لا يمكن مواجهتُها إلا بنظرية عنف عربية تتفوق عليها حضاريًا، وأنه لا يوجد حلٌّ وسط للصراع العربي- الإسرائيلي، وكل حلّ من هذا النوع سيكون مؤقتًا؛ ولذلك فالصراع يقوم على توازن الإرادات، وليس توازن القوى والمصالح.
ولعلَّ “أبو جهاد” هو صاحب السبق في بناء مفهوم: “صراع الإرادات”، الذي يقومُ على نقلِ المعركة إلى قلبِ العدوّ، والحفاظ على الاشتباك المُباشر معه، وعدم السماح له بقطع خطوط التّماس، وتحويل الاستنزاف من مجال التّكتيك إلى مجال الاستراتيجيّة، والتركيز على البُعد النفسي المعنوي للعمليّات العسكرية التي تجعل العدوَّ لا يشعر بالأمن.
ويؤكّد “أبو جهاد” أنَّ البندقية الفلسطينية يجب أن تظل موجهةً نحو العدو، ويحْرُم استخدامُها في اقتتال داخلي بين الفلسطينيين، كما كان يرى أنَّ الشعب الفلسطينيّ هو القائد؛ لذلك يجب فتحُ المجال للنقد الذاتي، وحماية الديموقراطية وتعميق أساليب ممارستها، وعدم التركيز على الأشخاص مهما كانت أهميتُهم.
رصاصة صغيرة وإرادة كبيرة
عندما قرَّر “أبو جهاد” بدْء الكفاح المسلح عام 1965، سأله أحد أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح: ماذا ستفعل رصاصتك هذه في مواجهة الجيش الإسرائيلي الذي نجح في إنتاج قنبلة ذرية؟!!
أجاب: “لأنَّ العدو يملك هذا الجيش، ولأنه نجح في إنتاج قنبلته النووية في ديمونة، فإننا لا نملك إلا أنْ نواجِهَه برصاصتنا هذه الصغيرة، وبإرادتنا الكبيرة”.
لكن يبدو أنَّ ذلك السؤال أثار خيال المقاتل العنيد، فجمع المعلومات عن مفاعل ديمونة لسنوات طويلة، حتى تمكّن من التخطيط للقيام بعملية فدائية جريئة لتدميره في 7 مارس 1988، وكانت نتيجة العمليَّة قتْل 3 من الخبراء في المفاعل النووي.
ورغم فشل العملية، إلا أنَّها أثارت رعب جيش الاحتلال الإسرائيلي.. وعبَّرت عن إرادة كبيرة ملهمة تبتكر الوسائل لمواجهة القوة الغاشمة.
وقد نفَّذ الكثير من العمليات الفدائية خلال نحو ربع قرن، من أهمها عملية فندق “سافوي” في تل أبيب، التي أسفرت عن قتل 10 من جنود الاحتلال، وقتْل كبير خبراء المتفجرات الإسرائيلي ومساعده في نابلس عام 1976.
وفي جنوب لبنان أسر 8 جنود إسرائيليين، واحتفظ بهم لمبادلتهم بجميع المعتقلين اللبنانيين والفلسطينيين، وعددهم أكثر من خمسة آلاف.
كما خطّط لعمليَّة اقتحام وتفجير مقرّ الحاكم العسكري الإسرائيلي في لبنان التي قُتل فيها 76 ضابطًا وجنديًا إسرائيليًا عام 1982.
“لنستمر في الهجوم فقد وضعت الانتفاضة عدوّنا في أزمة؛ فإما أن يتنازل أو يتشدد، وفي الخيارين معًا فناؤه ومقتله؛ فإذا تراجع نشدّ عليه، وإذا تشدّد نقاتله ونقاومه، ونستمر في الهجوم حتى يتنازل ويخضع ويرحل”
الاتجاه إلى الداخل الفلسطينيّ
بعد خروج المقاومة من لبنان نقل المعركة إلى داخل الأرض الفلسطينية، وخلال 5 سنوات كانت انتفاضة الحجارة قد اندلعت وكان “أبو جهاد” أحد قادتها المؤثّرين وسفرائها المحنَّكين، وقد ساهمت تلك الانتفاضة في تشكيل رأي عام عربيّ وعالميّ يؤيد حقّ الفلسطينيين في تحرير أرضه.
وفي الوقت نفسه، أفقدت الانتفاضة المحتل الإسرائيلي سيطرتَه على كثيرٍ من المدن والقرى الفلسطينية، حتى قال أحد قادة العدوّ: إنَّ “أبو جهاد” كاد يحوّل الأرض المحتلة إلى مناطق لا يمكن حكمها من قِبل إسرائيل.
وفي 1988 دعا “أبو جهاد” لتوسيع الانتفاضة لتشمل المقاومة الشعبية العفوية باستخدام كل الوسائل المتاحة كالحجارة والمولوتوف والسكاكين.
كما كوَّنَ قوة عسكرية من شبابها، للقيام بأعمال فدائية ضد الأهداف العسكرية الإسرائيلية.
الرسالة الأخيرة
في رسالته بعنوان: “لنستمر في الهجوم”، على إذاعة صوت الثورة في 27 مارس/ آذار 1988 طالب “أبو جهاد” الشعبَ برفض أية تهدئةٍ، أو تهاونٍ أو تعايش مع الاحتلال، وقال: “لنستمر في الهجوم فقد وضعت الانتفاضة عدوّنا في أزمة؛ فإما أن يتنازل أو يتشدد، وفي الخيارين معًا فناؤه ومقتله؛ فإذا تراجع نشدّ عليه، وإذا تشدّد نقاتله ونقاومه، ونستمر في الهجوم حتى يتنازل ويخضع ويرحل”.
وأضافَ: لنستمر في الهجوم حتى لا نسمح لأحد بالالتفاف على انتفاضتنا وتطويقها، ولا يمكن لنا أن نكرِّر إخفاقات الماضي، وأن نسمح لأحد أن يكرّر تاريخ النداء المشؤوم الذي وجّهه حكّام العرب لشعبنا في ثورة 1936 لإنهاء الانتفاضة والإضراب العام”.
وقال: “انتفاضتنا تكاد تهدم كلّ ما توهَّم العدوّ أنّه بناه أوشيّده في 40 عامًا من الاغتصاب والاحتلال، وكان إنجازُ الانتفاضة بطوليًا ومشرفًا بكلّ القيم والمعايير، لكنّ المعركة لا تزال في عنفوانها، والنصر – كما يقول مجاهدو العرب – صبر ساعة، فليس أمامنا إلا تصعيد الانتفاضة والاستمرار في الهجوم، وهذا يعني أن نضرب المثل في الإقدام والعطاء والتضحية، فروح الهجوم تذكيها دائمًا نارُ التضحيّة وشعلة العطاء المتوهّجة”.
اكتشف الاحتلال الإسرائيلي أنّ الشعب الفلسطيني يستجيب لتوجيهات “أبو جهاد”، فانتهكَ سيادة الدولة التونسيّة، واقتحمَ بيتَه، وأطلق 74 رصاصة على جسده لينال الشهادةَ بعد رحلة كفاح وتضحية، وهي الخاتمة النبيلة التي يستحقّها قائدٌ عاشَ وضحّى من أجل تحرير فلسطين.
Source link