أخبار العالم

من غرفة جولدا مائير لبولاق أبو العلا.. يوم 6 أكتوبر 1973 كأنك تعيشه

[ad_1]

بدون مقدمات طويلة، في هذا التقرير سنخوض رحلة عبر الزمن نروي خلالها ما حدث في يوم 6 أكتوبر/ تشرين الثاني 1973 من بلدان وقارات مختلفة، والشيء الوحيد المطلوب قبل البدء في هذه الرحلة هو محاولة نسيان ما آلت إليه الأحداث والشخصيات والمواقف السياسية في الشهور والسنوات اللاحقة لهذا اليوم. الآن سنقلع لنعيش يوم العاشر من رمضان عام 1393 هـ، وكأننا لا نعرف أبدا ما الذي حدث بعده عبر خمسة عقود وصولا إلى اليوم.

ساعة العبور

في الساعة الواحدة ظهرا بتوقيت القاهرة، وصل الرئيس المصري محمد أنور السادات، الذي لم يستطع النوم الليلة السابقة إلا بمنوم، إلى مقر قيادة العمليات الرئيسي المعروف بالمركز رقم 10، وطرح على القائد العام للقوات المسلحة أحمد إسماعيل السؤال الصعب: هل نجح رجال الصاعقة الذين تسللوا لسيناء أمس في إبطال مواسير اللهب السائل الفتاك التي بإمكانها أن تشعل القناة أم لا؟ (1)، وكانت الإجابة قبل نصف ساعة من بدء الحرب باعثة على الخوف في لحظة بدا فيها الزمن وكأنه يمر أبطأ من المعتاد.

بسبب القرار الخاص بالتزام قوات الصاعقة المصرية في هذا اليوم الصمت اللاسلكي خوفا من التجسس المُحتمل، لم تستطع القيادة العسكرية أن تعرف أكثر من أن رجال الصاعقة شرعوا في مهمتهم، لكن نجاحهم من عدمه لن يُكشف على وجه الدقة إلا وقت العبور، فإما أن يعبر الجنود بسلام من لهب “النابالم”، وإما أن تتحول المياه إلى ألسنة نار تصل حرارتها لـ 700 درجة مئوية تشوي الجنود المصريين العابرين وحتى الأسماك في قاع المياه.

(مواقع التواصل)

خرج (2) هؤلاء الجنود الـ31 في سكون الليل العميق ليتسللوا بين دفاعات العدو الذي اشتهر بقدراته الفذة على التأمين والتجسس، كي يسدوا 360 فتحة ماسورة نابالم، في مهمة تبدو “انتحارية” لكنهم ذهبوا إليها على كل حال. أما في صفوف وحدات الجيش الأوسع، فلم يعلم الجنود المصريون أنهم سيخوضون حربا اليوم إلا في الساعة الثامنة صباحا بتوقيت القاهرة (قبل ساعة الصفر بست ساعات فقط) (3)، وقد قامت إدارة الجيش بتوزيع منشور على الجنود قبل العبور مباشرة يحتوي على التالي: “يا جند الله إن رسول الله معنا في المعركة، طهروا تراب الوطن من رجس الغاصب وانصروا الله ينصركم والأمة كلها من ورائكم مؤمنة بالنصر”، وفقا ما رواه الصحفي الشهير محمد حسنين هيكل في كتابه “أكتوبر 73.. السلاح والسياسة” (4).

تحدث المنشور أيضا عن رؤى تواترت في الأيام الماضية من أولياء الله الصالحين -بحسب وصف المنشور- يظهر فيها الرسول في طريقه إلى سيناء يتجول بين صفوف الجنود المصريين وهو مبتسم ويعطي إشارات واضحة حول النصر، وتحرير سيناء. وعلى جانب آخر كان رئيس أركان الجيش المصري سعد الدين الشاذلي قد أمر بتوزيع مكبرات صوت على طول الجبهة يتم النداء فيها بكلمة واحدة “الله أكبر.. الله أكبر” أثناء العبور (5).

سعد الدين الشاذلي (مواقع التواصل الاجتماعي)

كان شيء واضح يتغير في طريقة إدارة الحروب في مصر، إذ أصبحت القيادة السياسية والعسكرية مقتنعة بأهمية العامل الديني، بل وحتى أسماء الخطط والشيفرات تغيرت كليا هي الأخرى فبدلا من الخطط في عهد جمال عبد الناصر التي كانت تحمل أسماء مثل “جرانيت”، صارت أسماء الخطط في حرب أكتوبر هي “المآذن العالية” ثم “بدر” (6) وبدلا من كلمات السر في عهد جمال عبد الناصر التي كانت على شاكلة “الدكتور عصفور” أصبحت الشيفرات مستوحاة أكثر من تراث الحضارة الإسلامية مثل “عباس بن فرناس”.

وللمفارقة فإن الإدارة العسكرية التي كانت توزِّع على الجنود في حرب أكتوبر منشورات دينية، بدت في تخطيطها قبل الحرب وعلى الأقل في الأيام الأولى منها أكثر اتباعا للمنهج العلمي وأساليب التخطيط الحديثة بكثير من الإدارة الحربية للرئيس الراحل جمال عبد الناصر وصديقه الصدوق ورفيق دربه عبد الحكيم عامر التي أدت إلى هزيمة قاسية ستظل علامة في التاريخ العربي قبل 6 سنوات فقط من ذلك التاريخ.

امرأة آيلة للسقوط

في الوقت نفسه، بدت الصورة مغايرة تماما على الطرف الآخر، في يوم ستصفه رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير فيما بعد بـ”الكارثة الساحقة والكابوس الذي ظل باقيا معها على الدوام” (7). يصادف اليوم عيد الغفران وهو أكثر أيام السنة قداسة عند اليهود وفيه يمتنعون عن الطعام والشراب والعمل، وتتوقف حتى الإذاعة والتليفزيون والصحف في إسرائيل عن البث، ويأخذ العديد من جنود الاحتلال فيه إجازات لقضاء العيد مع أسرهم (8).

 في يوم 6 أكتوبر الرابعة فجرا، وصلت المعلومات المؤكدة إلى غولدا مائير بأن ما نقله الجاسوس المصري كان صحيحا وأن مصر وسوريا سيشنان هجومهما مساء اليوم. (مواقع التواصل)

حتى يوم 5 أكتوبر، كانت تقديرات المخابرات الإسرائيلية وحلفائها الدوليين أن الحرب غير محتملة وذلك على الرغم من أن الجاسوس المصري رفيع المستوى (وفق الرواية الإسرائيلية) أشرف مروان قد أبلغ تل أبيب بمعلومة موعد الحرب (9). لكن ولأن مروان كان قد أخبر إسرائيل سابقا في مايو/ أيار 1973 أن الحرب ستقوم ولم تقم، بالإضافة إلى الثقة الإسرائيلية في استحالة أن تقوم مصر بمخاطرة من هذا النوع، لم تتفاعل دولة الاحتلال بجدية مع تلك المعلومات.

هناك أمر آخر شديد الأهمية لم يأخذ حقه من الانتباه عند الكثيرين من مؤرخي الحرب، وهو أن الفروق بين طبيعة النظام السياسي المصري في عام 1973 ونظام دولة الاحتلال لعب دورا كبيرا في نجاح العملية المصرية. لقد ورث السادات دولة استبدادية مركزية من زعيم تمتع بشعبية طاغية، لكن السادات كان محط شك من أجهزة الدولة ومراكز القوى. وقد أنتج ذلك حالة توازن مثالية لتلك اللحظة، فبينما لم تستطع الحكومة الإسرائيلية أن تتعامل مع التهديدات التي وصلتها من مصادر رفيعة بجدية من خلال إعلان التعبئة العامة في عيد الغفران خوفا من أن يثير ذلك غضبا شعبيا عارما يسقط الحكومة إذ لم تقم حرب في النهاية، كان يمكن للدولة في مصر أن تجند مئات الآلاف من الشباب لسنوات وتمارس كل حيل الخداع الاستراتيجي للعدو دون خوف كبير من الجماهير.

وفي نفس الوقت فإن السادات الذي ورث تلك الدولة الاستبدادية التي تمكنه من التحكم في ورق اللعب كله كان تحت ضغط كبير لاتخاذ قرار الحرب لأنه يحتاج أكثر من سلفه لهذا الانتصار ليؤكد شرعية حكمه الذي كان قطاع من الناس يرون أنه وصل إليه بمحض الصدفة. كما أن السادات على المستوى الشخصي كان مثاليا لهذه اللحظة بغض النظر عمَّا آلت إليه الأمور فيما بعد، فقد امتلك مهارة خاصة أثبتها مرارا على مدار حياته السياسية هي قدرته على إظهار الضعف وقلة الحيلة لخصومه حتى ينقض عليهم في اللحظة المناسبة، لا ننسى هنا أن السادات عاش مع عبد الناصر سنوات طويلة أفضت إلى تعيينه نائبًا لرئيس الجمهورية، وقد كشفت الأيام بعد ذلك أنه لم يكن مؤمنا بحرف واحد من الأيديولوجية الناصرية ولا سياساتها ولكنه استطاع أن يُظهر للجميع وأولهم ناصر أنه تلميذ مطيع في مدرسته.

غولدا مائير في وهنري كيسنجر (مواقع التواصل)

نفس الأمر حدث مع “كيسنجر” و”غولدا مائير” اللذين رأيا في السادات قبل الحرب رجلا غريب الأطوار يتحدث بلغة مسرحية ولا يمتلك هيبة سلفه وفق ما نقله هيكل في كتابه سابق الذكر (مع التسليم بتحيزات هيكل المعروفة ضد السادات)، ومن ثم فقد أخفق كل منهما في تقدير قيمته وقد ساعد ذلك على تعميق القناعة لديهما بأنه لن يقدم على أي مغامرة عسكرية خطيرة مثل محاولة تحرير سيناء، خاصة بعد أن أشاع في العالم كله وفي بلاده أنه سيحارب في عام 1971 وفعل الأمر نفسه في العام التالي دون أي تحرك فعلي، حتى إن كيسنجر لم يكن يتجاوب معه بجدية مع عرضه السلام مع إسرائيل الذي أطلقه عام 1971 لأنه ببساطة لم يقتنع بقدرته على فعل شئ آخر.

نعود إلى تل أبيب في يوم السادس من أكتوبر، ففي الساعة الرابعة فجرا وصلت المعلومات المؤكدة من الموساد إلى غولدا مائير بأن ما نقله الجاسوس المصري كان صحيحا وأن مصر وسوريا سيشنان هجومهما مساء اليوم. وصلت غولدا إلى مكتبها في تمام الساعة السابعة صباحًا، ثم اجتمعت مع قادتها العسكريين في الساعة الثامنة وخمس دقائق. قرر المجتمعون، الذين كانوا واثقين من قدرة جيشهم على “شيّ” المصريين والسوريين قبل العبور أن يتلقوا الضربة الأولى حتى لا يخسروا الدعم الدولي، وألا يقوموا بضربة استباقية (10)، تماما كما كانت خطة ناصر هي تلقي الضربة الجوية الأولى من إسرائيل في عام 1967، وما لم يكونوا يعرفونه هو أن القلق الذي كان مستبدا بالسادات حتى صباح العاشر من رمضان، كان هو أن تقوم إسرائيل بضربة جوية استباقية قبل بدء الحرب.

على الفور بدأت غولدا مائير في الاتصال بحليفها هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي لإبلاغه بأن المصريين والسوريين سيبدأون الحرب الليلة، وبالتزامن مع ذلك، كانت هناك جولة تلاعب لغوي ونفسي شيقة برع فيها وزير الخارجية المصري آنذاك محمد حسن الزيات والسفير الروسي في الولايات المتحدة أناتولي دوبرينين. فحين تواصل كيسنجر في الثامنة صباحًا مع محمد حسن الزيات الذي كان موجودًا في نيويورك يومها وقال له إنه عرف معلومات الحرب، أعرب الزيات عن دهشته في البداية ثم عاد إليه برسالة من مصر بعد ذلك ليقول فيها إنه تواصل مع الإدارة وأنها أبلغته بأن الإسرائيليين قد بدأوا في شن هجوم على مصر وأن مصر بدأت في الرد (11).

بالطبع اندهش كيسنجر من الرد، فلا توجد أي مصلحة لإسرائيل في شن هذا الهجوم، فضلًا عن أن اليوم هو عيد الغفران والكل في إجازة في إسرائيل، ولكن كيسنجر حاول أن يلعب مع الزيات بذكاء فطلب منه أن يخبر القاهرة ألا تتجاوز في الرد على إسرائيل، لكن الزيات رد بأنه ربما لن يستطيع توصيل تلك الوصية للإدارة المصرية الآن بسبب صعوبة الاتصالات فعرض عليه كيسنجر أن يستخدم مكتبه. بعد ذلك تواصل كيسنجر مع السفير السوفيتي في الولايات المتحدة أناتولي دوبرينين ليفاجأ بأن هذا الأخير أيضًا يقول له إنه يشك في قصة أن مصر وسوريا سيهجمان اليوم، وأن لديه معلومات هو الآخر بأن إسرائيل قد ضربت مواقع مصرية صباح اليوم (12).

على جانب آخر، كانت التقديرات عند غولدا وقادتها حتى الساعة الثانية ظهرا -بحسب ما تظهره الوثائق الإسرائيلية- هو أن العملية ستبدأ على الأغلب في الساعة السادسة مساًء (13)، وفجأة حلت الساعة الموعودة وهم في اجتماعهم فسمعوا صافرات الإنذار في تل أبيب (14)، لقد بدأت الحرب.

الناس في المحروسة

اليوم هو العاشر من رمضان، والجو خريفي والسماء تسكنها الغيوم، والناس في مصر يحتفلون بمناسباتهم الدينية على نحو مختلف عن ذلك الذي في تل أبيب، فبينما كانت شوارع الاحتلال فارغة تمامًا، كانت شوارع القاهرة ممتلئة لا تنام في رمضان، الناس هنا رغم ذل الهزيمة، لا زالوا يحبون الحياة ولا يخشون الموت، فكل بيت فيه ذَكرٌ مجند في الجيش منذ سنوات يمكن أن يصلهم نبأ استشهاده في أية لحظة.

في الساعة الثانية ظهرا، وبينما يتمنى الناس لو يمر الوقت حتى تأتي ساعة الإفطار، جاءهم هذا البيان الهام عبر المذياع (15): “بسم الله الرحمن الرحيم. قام العدو الساعة الواحدة والنصف بعد ظهر اليوم بمهاجمة قواتنا بمنطقتي الزعفرانة والسخنة بخليج السويس بواسطة تشكيلات من قواته الجوية عندما كانت بعض من زوارقه البحرية تقترب من الساحل الغربي للخليج، وتقوم قواتنا حاليا بالتصدي للقوات المغيرة”. للوهلة الأولى، اندهش الناس من البيان، ولم يفهموا ما المقصود لكنهم أحسوا أن هناك لغة مختلفة وغريبة عن البيانات السابقة. تلى ذلك البيان بيان بعد 25 دقيقة يقول أنه ردا على العدوان الإسرائيلي، قامت الطائرات المصرية بقصف الأهداف العسكرية في أراضي سيناء المحتلة (16).

في الواقع قبل بداية الحرب كان السادات يميل لفكرة إذاعة بيان حماسي يرج القلوب مع بدء المعركة، لكنه بعد ذلك آثر أن تكون البيانات الأولى شديدة الحذر (17) لسببين، أولهما أن يُظهر أن إسرائيل هي التي بدأت بالعدوان فيمنحه هذا فرصة للأخذ والرد حين تضغط عليه الولايات المتحدة للتراجع، والسبب الآخر هو خشيته ألا تسير الأمور على النحو المأمول في وقت لن يكون بمقدور الشعب المصري فيه تحمل هزيمة جديدة، ولذلك وحتى نهاية يوم السادس من أكتوبر كانت البيانات المصرية تؤكد أن عملياتها لم تكن إلا ردا على العدوان الذي بدأته إسرائيل ضد مصر وسوريا.

جرى ترتيب التعامل الإعلامي مع الحرب قبلها بشهور، وتبنت الإدارة المصرية وقتها مبدأين رئيسيين وفق ما أشار إليه هيكل، الأول ألا تتكرر “التعبئة الإعلامية” التي حدثت وقت الهزيمة في عهد إدارة ناصر والتي كان عمادها تضليل الناس بمعلومات مغلوطة، والمبدأ الثاني هو أن تصبح وسائل الإعلام المصرية مصدرا موثوقا فيه عن أنباء الحرب من ناحية الخسائر والمكاسب بالنسبة للعالم، حتى لا تصبح إسرائيل هي المُتحدث المُصدَّق الوحيد.

في تمام الساعة الثالثة عصرا جاء البيان الثالث للشعب المصري ليقول إن الطائرات المصرية قد نفذت مهامها بنجاح وعادت سالمة عدا طائرة واحدة (كانت تلك هي طائرة الشهيد عاطف السادات شقيق رئيس الجمهورية)، بدأ الناس يهمهمون في حذر بأن الحرب بدأت، فآخر مرة حَلُمَ فيها المصريون بتحرير الأراضي العربية كانت الضريبة باهظة، وصار الناس يخشون الأحلام أكثر من خوفهم من الواقع.

في ذلك الزمان لم يكن الناس في مصر يعيشون في جزر منعزلة، حيث بعضهم شديد الفقر والآخر فاحش الثراء، وإنما كانوا يعيشون بفروق طبقية أقل كثيرًا من الحال الآن، يسكنون في بنايات مشتركة لا يغلق فيها أحد بابه إلا وقت النوم. كان الناس يعيشون وكأنهم في أسرة ممتدة تراحمية، فلم يكن الرئيس السادات قد قاد بعد انقلابه ضد كل السياسات الاجتماعية والاقتصادية للعصر الناصري وبدأ عصر الانفتاح والليبرالية الاقتصادية والشراكة مع الولايات المتحدة الأميركية.

في الساعة الرابعة تقريبا، بدأ الناس يدخلون بيوت بعضهم البعض يتسامرون عما يحدث، فالبيان الجديد يقول بوضوح إن “قواتنا نجحت في اقتحام قناة السويس واستولت على نقاط العدو الحصينة بها وأن العلم المصري قد رُفع على الضفة الشرقية للقناة”. الآن يحق للناس في المحروسة أن ينعموا بهمهمة مرتفعة قليلًا: “الله أكبر.. الله أكبر”.

حصاد المعجزة

“ولادي ركبوا خط برليف يا محمد”

(أنور السادات متحدثًا في مساء 6 أكتوبر مع محمد حسنين هيكل الذي كان لا يزال من أقرب مستشاريه (18).

حين حضر السادات لمركز قيادات العمليات في الظهيرة، كانت الأجواء مشحونة في الغرفة بمزيج لا يمكن وصفه من القلق والأمل، فبعد هذا اليوم إما سيخلد التاريخ الحاضرين كأبطال وإما سيلاحقهم العار طيلة حياتهم. بدأ القادة في متابعة سير الأحداث وكانت النتائج مذهلة، فكل شئ يسير في وفق ما هو مُخطط له وكأنه طابور عسكري روتيني.

لقد ظهرت إجابة السؤال الذي كان يسأله السادات ظهر يوم الحرب، نعم، نجحت قوات الصاعقة المصرية في سد أنابيب النابالم. لن يأكل اللهيب الإسرائيلي أجساد المصريين كما كانت تأمل إسرائيل، وستنعم الأسماك في أعماق القناة بالحياة دون أن يتم شيها حية، بل سيقف جنود العدو مذعورين تلاحقهم الخسائر على الأرض التي اغتصبوها.

على أرض المعركة كان ما يحدث أقرب إلى المعجزة، فبمجرد عبور القوات الجوية خط القناة لضرب مطارات العدو وصواريخه ومراكز اتصالاته بنجاح، كانت طلقات المدافع المصرية تزلزل الأرض وتُخرج الفئران مفزوعة من جحورها، لتعبر أفواج العابرين وهم العنصر الأهم في الحرب، وكان المهندسون قد وصلوا هم أيضًا للضفة الأخرى من القناة ليقوموا بعمل مضن من أجل فتح الثغرات في الساتر الترابي الإسرائيلي المنيع وهو ما نجحوا فيه بالفعل ليقوموا بعدها بإنشاء 7 من الكباري الثقيلة، تدفقت فوقها الدبابات والمدرعات تقتحم سيناء المحتلة (20)، وكلما حاول العدو أن يضرب بطياراته الكباري أو العابرين يتم التصدي له بنجاح فائق. الأخبار التي كانت تصل لغرفة إدارة العمليات في القاهرة كانت ببساطة شديدة لا تُصدق.

بحلول منتصف الليل كانت نصف مواقع خط بارليف الحصينة قد سقطت في يد المصريين والنصف الآخر وقع أغلبه تحت الحصار، مع وجود خمسة فرق مشاة ومدرعات على الضفة الشرقية من قناة السويس، بينما كانت الدبابات السورية قد تخطت من الساعة الرابعة عصرا حصون العدو بعد ضربة جوية ناجحة في هضبة الجولان، وتقدمت إلى مدينة القنيطرة بنهاية اليوم (21).

وبحلول المساء كانت بيانات القيادة العامة للقوات المسلحة التي تطرب الآذان آنذاك قد أعلنت بصراحة على المذياع: “نجحت قواتنا المسلحة في عبور قناة السويس على طول خط المواجهة وتواصل قتالها مع العدو بنجاح”. وداعًا للخنادق التي بناها الناس تحت بيوتهم خوفا من الضربات التي قتلت الأطفال في مدرسة بحر البقر والعمال الفقراء في مصنع أبو زعبل من قبل. لن يخشى أحد من إشعال سيجارة في المساء تكشف المنطقة لطائرات العدو الليلية التي تكسر حاجز الصوت. يمكن للمصريين الآن أن يتناولوا أشهى إفطار وسحور تناولوه منذ 6 سنوات.

أما أنور السادات فكان جالسا في قصر الطاهرة بالقاهرة بعد أن غادر غرفة العمليات في تمام الساعة السابعة مساء، يتلقى تهديدات كيسنجر ورسالة تهنئة حماسية مكتوبة من الزعيم السوفيتي بريجينيف، وقلبه يرقص فرحا، فها قد أتت اللحظة التي انتظرها الرجل طوال مسيرته.

لطالما قلل الناس من شأنه، كان أعضاء مجلس قيادة الثورة يتنمرون عليه حين يقول رأيا، وكان عبد الناصر يعامله بوصفه تابعه المطيع الذي لا ضرر منه، غولدا مائير وكيسنجر كانا يريان فيه قبل الحرب مهرجا لا يقدر على أخذ قرار جاد، والقادة السوفييت لا يردون في الكثير من الأحوال على اتصالاته ويخبره مساعدوهم أنهم في المصيف في جزيرة القرم كما يروي هو نفسه في مذكراته “البحث عن الذات”، فضلا عن مراكز القوى الذين كانوا يصفونه بعنصرية في التسجيلات التي سمعها بنفسه بـ”ابن السوداء” الذي سيقضون عليه بسهولة.

كانت غولدا مائير في غرفة إدارة العمليات بتل أبيب تتمنى البكاء ولا تستطع من فظاعة الأحداث، ولم يكن أحد في الحكومة الإسرائيلية يتخيل أن المصريين سينجحون في عبور القناة دون أن تلتهمهم النيران، (مواقع التواصل)

لقد سخر الجميع منه، وها هو يشعر اليوم أنه نجح فيما لم تنجح فيه الجيوش العربية مجتمعة في عام 1948 ولم ينجح فيه سلفه المهيب ذو الشعبية الجارفة أيضا. وبينما كان السادات يكافح رغبته بإلقاء بيان للشعب بعد استشارة المقربين، اختارت رئيسة وزراء دولة الاحتلال غولدا مائير أن تكذب مباشرة على شعبها وتقول إن العرب قد تلقوا خسائر جسيمة وأن إدارتها لم تتفاجأ من الحرب. وقد استدعت الإسرائيلية الإدارة الجنود الاحتياطيين الذين كانوا جالسين في المعابد ولم يستطع بعضهم أن يجد وحدته العسكرية، في حالة كاملة من الهلع والفوضى.

كانت غولدا مائير في غرفة إدارة العمليات بتل أبيب تتمنى البكاء ولا تستطع من فظاعة الأحداث كما ستصف هي الحالة فيما بعد (22)، وتنهال عليها التقارير المفزعة عن الوضع على الجبهات العسكرية مرفقة بتوقعات في غاية التشاؤم (23). لم يكن أحد في الحكومة الإسرائيلية قبل هذا اليوم يتخيل أن المصريين سينجحون في عبور القناة دون أن تلتهمهم النيران، بل إنهم لم يتخيلوا أن يأخذ السادات قرارا دون أن يعرفوه قبلها بوقت كافي من خلال جواسيسهم.

في نهاية اليوم وصل للرئيس السادات تقرير مفصل مبهج بحصاد اليوم التاريخي، يقول إن خسائر العدو بلغت “28 طائرة و31 دبابة وقطعة بحرية و11 أسيرا، بينما لم يتم بعد حصر قتلاه ومصابيه” (24)، علمًا بأنه في هذا اليوم أصيبت 17 دبابة مصرية واستشهد 64 جنديا مصريا بالإضافة لـ 420 جريحا، وهي أرقام لم يكن يتوقعها أكبر المتفائلين في غرفة العمليات فجر يوم 6 أكتوبر، فقد كانت التقديرات أن أعداد الشهداء في العبور سوف تكون بالآلاف. ولم يكن المشهد في سوريا أقل إشراقا فحين عاد موشيه ديان، وزير دفاع الاحتلال، من الجبهة السورية في 7 أكتوبر، أبلغ غولدا مائير بأن الوضع هناك كارثي وأنه ينصح بالانسحاب الفوري الكامل من هناك قبل أن تتفاقم الكارثة أكثر (25).

هكذا انتهى اليوم، يوم من أسعد الأيام العربية في القرن العشرين.

______________________________________________________________

المصادر:

  • 1- كتاب “أكتوبر 73: السلاح والسياسة” لمحمد حسنين هيكل.
  • 2-  البطل أحمد مأمون‏..‏نجح في تعطيل أنابيب النابالم
  • 3- حوار سعد الشاذلي مع الجزيرة
  • 4- كتاب “أكتوبر 73: السلاح والسياسة” لمحمد حسنين هيكل.
  • 5- كتاب مذكرات حرب اكتوبر، لسعد الدين الشاذلي
  • 6- المرجع السابق ذاته.
  • 7- كتاب إعترافات جولدا مائير لجولدا مائير
  • 8- المرجع السابق ذاته.
  • 9-الأرشيف الإسرائيلي: وثائق تكشف دور ملك الأردن الحسين بن طلال في حرب 1973
  • 10- أرشيف الوثائق الإسرائيلي
  • 11- كتاب “أكتوبر 73: السلاح والسياسة” لمحمد حسنين هيكل.
  • 12- المرجع السابق ذاته.
  • 13- أرشيف الوثائق الإسرائيلي
  • 14- كتاب إعترافات جولدا مائير لجولدا مائير
  • 15- بيانات القوات المسلحة
  • 16- المرجع السابق ذاته
  • 17- كتاب “أكتوبر 73: السلاح والسياسة” لمحمد حسنين هيكل.
  • 18- المرجع السابق نفسه.
  • 19- كتاب البحث عن الذات، لمحمد أنور السادات.
  • 20- كتاب مذكرات حرب اكتوبر، لسعد الدين الشاذلي.
  • 21- كتاب “أكتوبر 73: السلاح والسياسة” لمحمد حسنين هيكل.
  • 22- كتاب إعترافات جولدا مائير لجولدا مائير
  • 23- المرجع السابق نفسه.
  • 24- كتاب “أكتوبر 73: السلاح والسياسة” لمحمد حسنين هيكل.
  • 25- كتاب إعترافات جولدا مائير لجولدا مائير
[ad_2]
Source link

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى