ما بعده ليس كما قبله.. كيف غيَّر “طوفان الأقصى” نمط الصراع مع إسرائيل إلى الأبد؟
[ad_1]
في فجر السابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، نفَّذت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) هجوما بريا وجويا في عمق المستوطنات الإسرائيلية، وهو هجوم مُعقَّد على المستوى العملياتي والهندسي والاستخباراتي يُعَدُّ الأول من نوعه منذ قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي عام 1948. ورغم ما يقوم به جيش الاحتلال من غارات يومية تشبه عملية الإبادة الجماعية تحت سمع وبصر العالم والدول الغربية التي لم تتوانَ عن دعم الكيان المحتل، يقوم المسؤولون الغربيون في مقدمتهم الرئيس الأميركي جوزيف بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن بترديد أقوال ليس لها أي أساس من الصحة عن قيام حماس بذبح الأطفال، وغيرها من الاتهامات.
وكما أن عقارب الساعة لا يمكنها أبدا الرجوع إلى الوراء، فإن ما وجَّهته عملية “طوفان الأقصى” من صفعة للجيش الإسرائيلي وتدمير لهيبته لا يمكن محوه. فعلى مدار عقود لم تُفض عمليات التسوية الدولية ومقررات الأمم المتحدة إلى حل الصراع، ولم يحصد الفلسطينيين مقابل ذلك سوى الحصار والقتل الممنهج والصمت الدولي، في حين كانت المقاومة محصورة في خانة رد الفعل في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية التي لم ترقَ في معظم الأحيان (بسبب ضعف الإمكانات) إلى مستوى ما تقوم به قوات الاحتلال الإسرائيلي. كان كل ذلك، حتى جاءت عملية طوفان الأقصى التي مثَّلت تطورا استثنائيا في قوة الفعل المقاوِم، وأثبتت قدرة المقاومة على إلحاق أذى بالغ وعميق وإستراتيجي بدولة الاحتلال. وبذلك، كسرت العملية نمط الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي إلى الأبد، أما القادم فهو غير معروف، لكنه بالتأكيد لا يشبه السنوات الماضية، التي قامت فيها إسرائيل بقصف وقتل الأبرياء دون ثمن يكافئ إجرامها.
غزة.. من النكبة إلى أوسلو
بدأت الحكاية منذ أن أقرَّت الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر/تشرين الثاني 1947 قرارا بتقسيم فلسطين الخاضعة للانتداب البريطاني إلى دولة يهودية تضم 56% من فلسطين التاريخية ودولة عربية تضم المساحة المتبقية وتبلغ 44% (1). وحين اندلعت الحرب عام 1948 بين الجيوش العربية والعصابات الصهيونية وانتهت بهزيمة عربية، استلمت دولة الاحتلال البنية والعتاد والمواقع التي تركتها بريطانيا وراءها، ثم وسَّعت العصابات الصهيونية حدود دولتها الوليدة إلى 80% من أرض فلسطين، وتبقت مناطق لم تجتحها تلك العصابات هي الضفة الغربية وقطاع غزة الخاضع للإدارة المصرية حينئذ (2).
إثر ذلك، توجَّه نحو ربع مليون فلسطيني ممن طُردوا من بيوتهم أثناء حرب عام 1948 إلى غزة، وفاق عددهم بكثير عدد سكان غزة الأصليين الذي بلغ آنذاك 80 ألف نسمة فقط، وبات هؤلاء وذريتهم يشكّلون اليوم أكثر من 70% من سكان القطاع. ويُعَدُّ أكثر من نصف سكان غزة لاجئين تقل أعمارهم عن 18 سنة، وهي تحتل “المرتبة الثانية” على مستوى العالم من حيث أعلى نسبة سكان دون عمر 14 سنة، في حين أن الكثافة السكانية فيها ضمن الأعلى في العالم (3).
بعد توقف المعارك عام 1949، فرضت مصر سيطرة مُحكَمة على أنشطة الفدائيين في غزة، لكن في بداية عام 1955، بدأت الغارات الإسرائيلية على القطاع، إذ شنَّ الجيش الإسرائيلي غارة دموية عبر الحدود ذهب ضحيتها 40 جنديا مصريا. وفي أكتوبر/تشرين الأول 1956، اجتاحت إسرائيل بالتواطؤ مع بريطانيا وفرنسا شبه جزيرة سيناء المصرية واحتلت غزة. وقد وصف المؤرخ الإسرائيلي “بيني موريس” الأحداث التالية قائلا: “لقد علِق العديد من الفدائيين وما يُقدر بـ4000 جندي نظامي من المصريين والفلسطينيين في القطاع، وقد حدد الجيش الصهيوني وجهاز الأمن العام هويتهم واعتقلهم، ولقي العديد منهم حتفهم في مذبحتين ارتكبهما الجيش الصهيوني” (4).
بحلول عام 1957 انسحب الجيش الإسرائيلي من غزة مخلِّفا وراءه أكثر من 1000 شهيد، لكن إسرائيل أعادت احتلال القطاع أثناء حرب 1967. وعندما أظهر الغزاويون مقاومة عنيدة للاحتلال، جاء شارون على رأس القيادة الجنوبية لجيش الاحتلال بهدف “سحق المقاومة في غزة”، وتشير باحثة أميركية متخصصة في تاريخ غزة كيف قام شارون “بوضع مخيمات اللاجئين تحت عمليات حظر تجول تستمر 24 ساعة، يُفتِّش خلالها الجنود البيوت ويجمعون الرجال في ساحة عامة لاستجوابهم، وقد أُجبِر العديد من الرجال على الوقوف في مياه البحر المتوسط حتى خصورهم لعدة ساعات أثناء عمليات التفتيش”. إضافة إلى ذلك، أُبعِد ما يقارب 12 ألفا من أفراد عائلات المشتبه بانخراطهم في القتال إلى مخيمات احتجاز في سيناء، وخلال بضعة أسابيع، بدأت الصحافة الإسرائيلية نفسها توجه انتقادات للجنود على قيامهم بضرب الناس وإطلاق الرصاص على الحشود وتحطيم المقتنيات في البيوت وفرض قيود شديدة القسوة أثناء حظر التجول (5).
في يوليو/تموز 1971، أضاف شارون أسلوب “تقليص” مخيمات اللاجئين بهدف زيادة التضييق على أهل غزة، وبحلول نهاية شهر أغسطس/آب كان جيش الاحتلال قد اجتث أكثر من 13 ألفا من سكانها. وفتح الجيش باستخدام الجرافات طرقا واسعة عبر المخيمات وعبر الحقول لتيسير عمل الوحدات العسكرية الآلية وتمكين قوات المشاة من السيطرة على المخيمات، وأدت إجراءات القمع التي نفذها الاحتلال إلى تحجيم المقاومة.
في بداية التسعينيات، كانت إسرائيل على وشك النجاح في قمع الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي انطلقت عام 1987، وفي تلك الفترة دخلت دولة الاحتلال في مفاوضات سرية مع منظمة التحرير الفلسطينية في العاصمة النرويجية أوسلو، ثم جرت المصادقة على تلك المفاوضات في شكل اتفاق في سبتمبر/أيلول 1992، حيث اعترفت منظمة التحرير بـ”دولة إسرائيل” مقابل السلطة على الضفة الغربية وغزة. وسَعَت إسرائيل من خلال اتفاق أوسلو إلى تيسير فرض الاحتلال عن طريق سحب جنودها من الاتصال المباشر مع الفلسطينيين على أن يحل مكانهم “وكلاء فلسطينيون”. وقد علَّق وزير الخارجية الإسرائيلي السابق “شلومو بن عامي” على الأمر بقوله: “يتمثل أحد معاني أوسلو في أن منظمة التحرير الفلسطينية باتت كيانا متعاونا مع إسرائيل في مهمة خنق الانتفاضة وإجهاض كفاح أصيل لتحقيق الاستقلال الفلسطيني” (6).
17 عاما من الحصار
لكن الأمور لم تستمر كما خُطط لها، ففي عام 2006، وبعد أن سئم الفلسطينيون من مسار المفاوضات التي رأوها عبثية التي، صوتوا لصالح حركة حماس في الانتخابات التشريعية التي فازت فيها بأغلبية. وقد أعربت عضو مجلس الشيوخ الأميركي حينها “هيلاري كلينتون” عن سخطها من أن الولايات المتحدة لم “تزوِّر” نتيجة الانتخابات، وقالت إنه “كان يجب علينا أن نتأكد من القيام بأمر ما لتحديد الجهة التي ستفوز” (7).
بعد فوز حماس بالانتخابات شدَّدت إسرائيل حصارها فورا على القطاع، “وتوقفت الأنشطة الاقتصادية في غزة”، وحَذَت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حذو إسرائيل، إذ فرضا عقوبات مالية وُصفت بال “مدمرة” على غزة. وقد كان الدافع وراء هذه الحرب الاقتصادية القاسية التي استهدفت “حكومة منتخبة انتخابا حرا لشعب تحت الاحتلال” هو ضمان فشل حماس وضعضعة مكانتها بوصفها هيئة حاكمة. وطالبت واشنطن وبروكسل في آنٍ واحد الحركة الإسلامية أن تنبذ العنف (الذي يعني مقاومة الاحتلال)، وأن تعترف بإسرائيل وبالاتفاقات السابقة المبرمة بين الطرفين، رغم أنها شروط أحادية الجانب؛ إذ لم تُجبر إسرائيل بدورها على نبذ العنف الذي تمارسه بحق الفلسطينيين، كما لم يُطلب منها اعتراف مناظر بحقوق الفلسطينيين من أجل إقامة دولة ضمن حدود 1967، فضلا عن إيقاف توسُّعها في بناء المستوطنات (8).
في عام 2007، عزَّزت حماس سيطرتها على غزة بعد أن أحبطت محاولة انقلابية تبين أن واشنطن شاركت في تدبيرها بالتواطؤ مع إسرائيل وعناصر من فتح، وفق ما كشفته فانيدتي فير وصحف أميركية أخرى، فيما أطلقت عليه حماس بعد ذلك بـ”الحسم العسكري” (9)، وكان رد إسرائيل والولايات المتحدة تشديد الحصار. ولكن حماس في ذلك الوقت أرادت أن تمنح مَن انتخبوها مُتنفَّسا، فدخلت في اتفاق مع إسرائيل لوقف إطلاق النار في يونيو/حزيران 2008 بوساطة مصرية. وأبدت حماس استعدادها لقبول حل “الدولتين” وقيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967، بل وقبلت -مرحليا- بالدخول في أي مفاوضات لإتمام “عملية السلام” (10). لكن في نوفمبر/تشرين الثاني 2008، انتهكت إسرائيل الاتفاق، ونفَّذت غارة حدودية فتاكة على غزة أعادت إلى الأذهان الاعتداءات الحدودية التي شنتها عام 1955، وكان الهدف استثارة عملية انتقامية توفِّر ذريعة لشن هجوم إسرائيلي واسع.
بالفعل، تبيَّن أن الغارة كانت فاتحة لاجتياح دموي. ففي 27 سبتمبر/أيلول 2008، أطلقت إسرائيل عملية “الرصاص المصبوب”، وبدأت العملية بحملة جوية تبعها هجوم جوي وبري. وشنَّ سلاح الجو الإسرائيلي الذي يستخدم أحدث الطائرات المقاتلة في العالم نحو ثلاثة آلاف طلعة جوية فوق غزة وأسقط عليها ألف طن من المتفجرات، في حين نشر جيش الاحتلال عدة ألوية عسكرية مجهزة بأنظمة متطورة لجمع المعلومات، وبنادق روبوتية يُتحَكَّم بها عن بُعد مُزوَّدة ببث تلفزيوني. وعلى الجهة الأخرى، أطلقت حماس مئات الصواريخ “البدائية” وقذائف الهاون نحو إسرائيل. وفي 18 يناير/كانون الثاني 2009، أعلنت إسرائيل وقف إطلاق النار من جانب واحد، حيث كان موعد تنصيب باراك أوباما رئيسا حينئذ بعد يومين (10).
غير أن الحصار على غزة استمر، ومنحت إدارة الرئيس بوش والكونغرس الأميركي إسرائيل دعما تاما أثناء الهجوم. وأقر الكونغرس الأميركي بالإجماع قرارا يضع اللوم على حماس بشأن ما حدث من قتلٍ ودمار (11). وفي عام 2009، أصدرت بعثة لتقصي الحقائق مكلفة من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، على رأسها القاضي الجنوب أفريقي المعروف “ريتشارد غولدستون”، تقريرا كبيرا وثَّق ارتكاب إسرائيل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
بالمثل، وثّق تقرير منظمة “بتسليم” (مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة) السنوي لعام 2008 أن قوات الأمن الإسرائيلية قتلت 455 فلسطينيا، من بينهم 175 مدنيا على الأقل عام 2008، في حين قتل الفلسطينيون 31 إسرائيليا. ومن ثمَّ بلغت نسبة القتلى من الفلسطينيين إلى قتلى الإسرائيليين عشية ما يسمى “حرب الدفاع عن النفس” الإسرائيلية نحو 1:15. وقد شجبت إسرائيل احتجاز حماس لمقاتل إسرائيلي واحد أَسَرته عام 2006، في الوقت الذي احتجزت فيه دولة الاحتلال قرابة 8000 “سجين سياسي” فلسطيني، بمَن فيهم 60 امرأة و390 طفلا، و548 شخصا احتُجزوا بموجب الاعتقال الإداري من دون توجيه اتهامات ضدهم ولا محاكمتهم (42 منهم احتجزوا لمدة تزيد على سنتين).
في ديسمبر/كانون الأول 2008، أفاد تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (AHCO) بأن الحصار الإسرائيلي “المُمتَد منذ 18 شهرا خلق أزمة هائلة للكرامة البشرية، إذ أدَّى إلى تراجع كبير في سبل العيش وتدهور كبير في البنى التحتية والخدمات الأساسية”. فقد كان الغزاويون يفتقرون إلى الكهرباء لمدة تصل إلى 16 ساعة يوميا، ويحصلون على المياه مرة واحدة في الأسبوع ولبضع ساعات فقط، كما أن 80% من المياه كانت غير صالحة للاستهلاك البشري، وكان واحد من كل اثنين عاطلا عن العمل ويفتقر إلى الأمن الغذائي، وكانت 20% من الأدوية الأساسية في غزة قد تراجعت إلى مستوى الصفر، في حين عانى أكثر من 20% من المرضى بسبب السرطان وأمراض القلب وأمراض مستعصية أخرى، دون قدرة على استصدار تصاريح للحصول على علاج طبي في الخارج.
تعلَّق الغزاويون إذن بالحياة عبر خيط رفيع، وكل ذلك بسبب الحصار الإسرائيلي. وقد استنتج تقرير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية أن سكان غزة “يشعرون على نحو متزايد بأنهم عالقون في مصيدة، ماديا وفكريا وعاطفيا”. وفي ضوء ذلك التاريخ شديد الاختصار عن كفاح غزة ومعاناة شعبها يمكننا الآن أن نطرح السؤال: هل حماس هي مَن بدأت الحرب؟
الاختيار الصعب.. الموت بالحرب أو الموت بالحصار
عند لحظة ما، لم تُبدِ حماس اعتراضا على ما أجمع عليه المجتمع الدولي بخصوص “تسوية النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي” استنادا إلى حل الدولتين مع انسحاب إسرائيل إلى حدود ما قبل 1967، بحيث يتضمَّن ذلك حلا عادلا لمسألة اللاجئين سواء بالعودة أو التعويض. غير أن مَن شذَّ عن هذا الإجماع الواسع لم يكُن سوى إسرائيل والولايات المتحدة، فقد صوَّتت الدولتان بالرفض دوما في التصويت السنوي الذي تُجريه الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار “تسوية قضية فلسطين بالوسائل السلمية”، الذي يتضمن مبادئ لتحقيق حل الدولتين، منها تأكيد عدم جواز اكتساب الأراضي عن طريق الحرب، والتشديد على عدم مشروعية المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة منذ عام 1967 بما في ذلك القدس الشرقية، وضرورة انسحاب إسرائيل إلى حدود عام 1967 وإعمال حقوق الشعب الفلسطيني، وأهمها الحق في تقرير المصير وإقامة دولة مستقلة، وحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين وفقا لقرار الجمعية رقم 194.
في عام 2002، بدأت إسرائيل في إنشاء جدار داخل مناطق الضفة الغربية اتخذ مسارا مُتعرِّجا أدمج الكتل الاستيطانية الكبيرة فيما يشبه دولة فصل عنصري. وقد طلبت الجمعية العامة للأمم المتحدة من محكمة العدل الدولية أن توضح “الآثار القانونية الناشئة عن تشييد الجدار الذي تقوم إسرائيل بإقامته”، لتُصدر المحكمة قرارها الاستشاري بعدم قانونية الجدار عام 2004. ثم أعادت محكمة العدل الدولية التشديد على العناصر الأساسية للإطار القضائي لحل النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، وحدَّدتها في “قواعد ومبادئ القانون الدولي ذات الصلة”، وأبرزها أنه “لن يُعترف من الناحية القانونية بأي اكتساب للأراضي ناشئ من التهديد باستعمال القوة”، وأن “سياسة وممارسات إسرائيل المتمثلة في إقامة مستوطنات في الأراضي الفلسطينية لا تستند إلى أي أساس قانوني”.
تبلور إجماع دولي واسع أيضا لإعمال “حق العودة” للفلسطينيين، حيث نصَّ القرار 194 على “وجوب السماح بالعودة، في أقرب وقت ممكن، للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن الممتلكات للذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم”. إضافة إلى ذلك، صرحت منظمة “هيومان رايتس ووتش” بأنها “تحث إسرائيل على أن تقر بحق العودة لأولئك الفلسطينيين، ونسلهم، الذين فروا من مناطق تقع الآن داخل (دولة إسرائيل)، والذين احتفظوا بروابط مناسبة مع هذه المناطق”، كما دعت منظمة العفو الدولية إلى “تمكين الفلسطينيين الذين فروا من إسرائيل أو الضفة الغربية أو قطاع غزة أو طُردوا منها، وكذلك الأشخاص المنحدرون منها الذين حافظوا على روابط حقيقية مع المنطقة؛ من أن يمارسوا حقهم في العودة”.
على عكس ما يظنه كثير من العرب وغيرهم حول السقف المرتفع لحماس ومثاليتها الزائدة، كان موقف الحركة من تلك القضايا مرنا للغاية. فقبل بضعة أشهر فقط من عملية الرصاص المصبوب، صرَّح “خالد مشعل”، رئيس المكتب السياسي لحماس، أثناء مقابلة جرت معه بأن “معظم القوى الفلسطينية، بما فيها حماس، تقبل بدولة على حدود عام 1967” (12). وحتى بعد الدمار الذي خلّفه الاجتياح، أعاد مشعل التأكيد أن “الهدف الحالي يظل إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، وعودة إسرائيل إلى حدود 67، وحق العودة للاجئين” (13). وفي صيغة تكميلية، أخبر مشعل الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر عام 2006 أن “حماس وافقت على قبول أي اتفاقية سلام يتم التفاوض عليها بين قادة منظمة التحرير الفلسطينية وبين إسرائيل، بشرط أن يوافق عليها الفلسطينيون لاحقا عبر استفتاء عام أو من خلال حكومة منتخبة ديمقراطيا”، كما أكد كارتر بنفسه لاحقا (14).
بعد اتفاق وقف إطلاق النار الذي عقدته حماس مع إسرائيل عام 2008، التزمت حماس بوقف أي هجوم أو إطلاق أي صواريخ، وحثت جميع الفصائل على احترام الاتفاقية، حتى جاءت عملية “الرصاص المصبوب”، التي علَّقت عليها منظمة العفو الدولية في تقريرها السنوي بالقول: “في يونيو/حزيران، تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار بين إسرائيل وجماعات فلسطينية مسلحة في غزة، وظل قائما لمدة أربعة أشهر ونصف الشهر، لكنه انهار بعدما قتلت القوات الإسرائيلية ستة مسلحين فلسطينيين في هجمات جوية وهجمات أخرى يوم 4 نوفمبر/تشرين الثاني” (15).
ومع ذلك، ظلت حماس “مهتمة بتجديد الهدوء النسبي مع إسرائيل”، وفقا لتعبير رئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي “يوفال ديسكين”، كما كانت مستعدة للقبول بصفقة “لإيقاف إطلاق النار مقابل تخفيف السياسات الإسرائيلية التي خنقت اقتصاد القطاع”، وفقا لقائد الجيش الإسرائيلي السابق في غزة “شموئيل زكاي”. ولكن إسرائيل شددت حصارها الخانق، كما طالبت حماس بوقف إطلاق نار فوري وغير مشروط وأحادي الجانب. وحتى قبل أن تشدد دولة الاحتلال حصارها، شجبت مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان “ماري روبنسون” تأثير الحصار قائلة: “لقد تم تدمير جميع مظاهر المدنية [في غزة]، وأنا لا أبالغ في ذلك” (15).
بالمثل، أكدت “سارا روي”، المتخصصة بالاقتصاد السياسي في جامعة هارفارد، “أن الطعام والدواء، والوقود، وقطع الغيار لأنظمة المياه والصرف الصحي، والأسمدة، والأغطية البلاستيكية، والهواتف، والورق، والصمغ، والأحذية، وحتى أكواب الشاي، لم تعُد تدخل بكميات كافية أو لا تدخل إطلاقا. وها هو مجتمع بأكمله ينهار أمام أعيننا، ولا يوجد سوى استجابة دولية ضئيلة فيما عدا تحذيرات الأمم المتحدة التي تُتجاهل” (14).
في حال لم ترد حماس بأي مقاومة على هذا الوضع، فإن إسرائيل كانت لتزيد من أعمالها الاستفزازية، وهذا ما حدث بالفعل في الفترة بين عامي 2008-2021، حيث تكررت الحرب على غزة وقصفها، وتسوية أحيائها بالأرض وخنقها بالحصار، فلم يتبقَّ أمام “حماس” وأهل غزة عموما إلا الموت جوعا أو الموت بالمقاومة. وحتى صفقات تبادل الأسرى التي أجرتها حماس لم تُحدِث تغييرا كبيرا، حيث أعادت إسرائيل اعتقال عدد كبير من الأسرى المُحرَّرين. والمحصلة من كل ذلك هي أن المجتمع الدولي عاجز عن تغيير الواقع الذي تقوم فيه إسرائيل برمي كل قوانين وتقارير المجتمع الدولي وراء ظهرها، والمُضي قدما في قتل وسحق الفلسطينيين وحصارهم وتجويعهم أو أسرهم حتى الموت، مع عدم التزامها بأي اتفاقية لوقف إطلاق النار، مهما قدَّمت الفصائل الفلسطينية من تنازلات.
لذا، مثَّلت عملية “طوفان الأقصى” خروجا عن هذه الدائرة المُفرغة من المفاوضات والاتفاقات والتسويات التي استمرت لما يزيد على نصف قرن بلا فائدة، لتؤسس واقعا جديدا لم تعُد فيه إسرائيل الدولة صاحبة القوة الحاسمة والردع الكامل، ولم يعد جيشها “لا يقهر”. أما عمَّا هو آت فستكشف عنه الأيام والسنوات القادمة، لكن ما نعلمه يقينا أن إسرائيل والمنطقة كلها بعد تلك العملية لن تكون كما قبلها.
———————————————————————————————————
المصادر والمراجع
- غزة: بحث في استشهادها. نورمان جفنكلستين. ترجمة أيمن حداد.
- دولة الإرهاب. كيف قامت إسرائيل الحديثة على الإرهاب. تأليف: توماس سواريز. ترجمة: محمد عصفور
- غزة: بحث في استشهادها.
- Benny Morris, Israel’s Border Wars, 1949–1956 (Oxford: Clarendon Press, 1993), pp. 407–409.
- Jean-Pierre Filiu, Gaza: A History (New York; London: Hurst, 2014), p. 105
- Shlomo Ben-Ami, Scars of War, Wounds of Peace: The Israeli-Arab Tragedy (New York: Oxford University Press, 2006), pp. 191 and 211
- Ken Kurson, «2006 Audio Emerges of Hillary Clinton Proposing Rigging Palestine Election,» Observer (28 October 2016).
- غزة: بحث في استشهادها.
- US plotted to overthrow Hamas after election victory
- غزة: بحث في استشهادها.
- Stephen Zunes, «Virtually the Entire Dem-Controlled Congress Supports Israel’s War Crimes in Gaza,» Alternet (13 January 2009)
- Mouin Rabbani, «A Hamas Perspective on the Movement’s Evolving Role: An Interview with Khalid Mishal, Part II,» Journal of Palestine Studies, vol. 37, no. 4 (Summer 2008)
- غزة: بحث في استشهادها.
- 14.Jimmy Carter, We Can Have Peace in the Holy Land: A Plan That Will Work (New York: Simon and Schuster, 2009), pp. 137 and 177.
- غزة: بحث في استشهادها.
Source link