إسرائيل و”الاحتلال التقليدي” .. عالم يعود إلى الوراء | آراء
[ad_1]
في كتابِها “سجون نختار أن نحيا فيها “، ترى الروائية الإنجليزية درويس ليسينج الحاصلة على جائزة نوبل في الآداب أنّ الناظر إلى شؤون السياسات الداخلية، والأطماع التي تحُلُّ في رؤوسِ قادة بعض الدول، يتأكّد أنَّ العالم لا يتقدّم إلى الأمام في خطّ مستقيم، نحو التقدُّم والتحرّر والرفاه، إنما يتقهقر إلى الخلف، بخطًى سريعة، ليعود الإنسان إلى الغابة.
في أواخر السبعينيات من القرن الماضي انتشر بقوّة اصطلاح “الاستعمار الجديد” Neocolonialism والذي يقومُ على أنّ زمن احتلال أرض الغير بالقوّة العسكرية المسلّحة قد ولّى إلى الأبد، ليحلّ محِلّه شكلٌ آخر من الاستعمار يقوم على سرقة طوعية، ظاهرة وخفية، للموارد الطبيعية والبشرية، عبر تعويق القدرات الصناعية للدول الفقيرة والنامية، لتُجبر على تصديرها كموادَّ خام، ثم تعود إليها في شكل سلع، وبذا تتراكم الأرباح الوفيرة في جيوب المصنّعين، بينما يزداد المزارعون ومستخرجو المعادن من بطن الأرض فقرًا.
ويقوم هذا النوع من الاحتلال أيضًا على نزيف العقول أو هجرة الأدمغة من العالم الثالث إلى العالم الأول صناعيًا، إلى جانب الغزو الثقافيّ المنظم الذي يربط الدول الفقيرة في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية بثقافة الدول المتقدّمة تقنيًا وصناعيًا، وَفق ما اصطُلح عليه اسم “المركزية الأوروبية”.
وفي رِكاب هذا ظهرت مدرسة التبعية التي تقوم على إلحاق الدولة المتعثرة في التنمية بدول حقّقت فيها درجات متقدّمة، لتكون الأولى مجرد محيط للثانية، التي تشكل مركزًا يشدّ المحيط بإحكام ليدور في فلكه. ويتمّ هذا عبر ربط مجموعات من أصحاب المصالح في الدول الفقيرة بالمركز، ليظلّ هؤلاء أشبهَ بوكلاء محليين للاستعمار، أو لشركاته متعدية أو متعدّدة الجنسيات، التي صارت القدرة المالية لبعضها أكبر من دول كثيرة في عالمنا المعاصر.
وفي السياسة عمدت الدول الاستعمارية السابقة إلى أن تجعلَ على رأس الدول المستقلّة نخبًا سياسية تابعة، تؤمن بأنّ وصولها إلى السلطة، والاستمرار فيها، بيد الدول الكبرى، غير عابئة بمواقف الشعوب التي تدير شؤونها. فرغم أنَّ هذه الشعوبَ هي صاحبة الأرض والمال والسيادة والشرعية، فإنّها يجب ألا تملك القدرة على تغيير مَن يحكمونها، ليرى الحكّام أنّ بقاءَهم جالسين على عروشهم بيد القوى العالميّة الكبرى، وليس بيد الشعب.
وبينما كانت الدول المستقلّة حديثًا تلوكُ عبارتَها الغارقة في المجاز والتي تقول: “حمل الاستعمار عصاه ورحل”، كانت الدول الاستعماريّة السابقة مستريحة للصيغة الجديدة، التي تمكنها من الحصول على موارد الدول الفقيرة، والسيطرة على أغلب رؤوس أبنائِها ومشاعرهم، دون أن تكون مضطرة لتسيير الجيوش إليها، في مغامرة ذات كلفة بشرية ومادية مرتفعة.
عقارب الساعة الى الوراء
ومع تفكُّك الدول التي انضمّت قسرًا إلى كِيانات كبرى، كما جرى في الاتحادّين: السوفيتي واليوغسلافي المنهارَين، راحت الأدبيات السياسية تحفل بالحديث عن حقّ تقرير المصير، وعن ضرورة تلبية رغبة أصحاب القوميات في الاستقلال، وإقامة دول أو دويلات على أساس عِرقي. ولم يكن هذا ببعيد عن الرؤية العامة المتعلّقة بنهاية عصر الاستعمار التقليدي، الذي حكم تاريخ العالم، وقامت على أساسه دول وإمبراطوريات سادَت ثم بادَت.
وأرادت الولايات المتحدة الأميركية- بوصفها الإمبراطورية التي تغلّبت بعد الحرب العالمية الثانية- أن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء، باستخدام القوّة المسلّحة السافرة في تغيير أنظمة الحكم عَنوة، كما جرى في بنما، وفي احتلال الدول، كما حدث في أفغانستان والعراق. لكنّ هزيمة مشروع الاحتلال الأمريكي- بالانحسار والتقوقع في العراق، والهرب من أفغانستان- أعطت الرؤيةَ السائدة بانتهاء عصر الاستعمار التقليديّ حُجةً قوية.
وحتى الهيمنة المباشرة- التي تقوم على تمسّك دول متقدمة بالنفوذ القديم في دول تعتبرها امتدادًا لإرثها الاستعماري التاريخي أو فِناءً خلفيًا أو مجالًا حيويًا لها- لاقت صعوبة في الاحتفاظ بقوّة دفعها، فوجدنا قدرة الولايات المتحدة على تغيير الأنظمة في أمريكا اللاتينية أو استتباعها، تواجه صعوبات جمّة، وتفشل في بعض الحالات، وآخرها ما حدث في فنزويلا. ووجدنا فرنسا تُجبر على سحب قواتها من دول فرانكفونية مثل النيجر، أو تفقد قدرتها على تحريك السياسات المحلية، مثلما حدث في الجابون.
وحدها اسرائيل
وحدَها بقيت إسرائيل متمسكة بالاحتلال في شكله التقليدي، تدافع عنه، وتقتل وتصيب وتدمر وتسجن من أجل استمراره، بل تسعى إلى زيادة رقعة الأرض المستعمرة، سواء بقضم الأراضي في الضفة الغربية، لتقيم عليها مستوطنات أو مغتصبات، حَسَب الاصطلاح الفلسطيني، أو بالسعي إلى تهجير السكان الأصليين والاستيلاء على أراضيهم، مثلما تطرح الآن الحكومة التي تشكّلها أحزاب متطرفة ويقودها بنيامين نتنياهو، بخصوص قطاع غزة.
لم تكتفِ إسرائيل بشكل الاستعمار الجديد، الذي يتجسّد في استيلائها على الموارد في المناطق الفلسطينية، وفائض الجهد لسكانها، الذين يضطر بعضهم إلى العمل في بناء المستوطنات نفسها، ليجدوا ما يتقوّتون به، بل حافظت معه على الاستعمار التقليدي، ما جعلها ترفض طَوال الوقت إقامة دولة للفلسطينيين على مساحة لا تزيد عن 22 في المائة من أرض فلسطين التاريخية.
واستخدمت إسرائيل التقنيات الفائقة في إدارة احتلالها، لتحوّل الضفة الغربية وقطاع غزة إلى أكبر سجن في العالم. فهاتان المنطقتان مطوّقتان بسياج من الخرسان (الإسمنت والحديد) يسمّى “الجدار العازل”، مثبتة عليه كاميرات مراقبة متطورة جدًا، متصلة بأسلحة إلكترونية، ما إن ترصد الكاميرات أحدًا يريد أن يفرّ من هذا السجن، حتى يطلق السلاحُ النارَ عليه فيُرديه قتيلًا أو يصيبه. وتمتدّ هذه الرقابة إلى شوارع المدن، والبيوت أحيانًا.
وجاءت الحرب على غزة لتظهر أنّ هذا النوع من الاحتلال يلقى تأييدًا من القوى الاستعمارية القديمة؛ رغم أنها تتحدث في الظاهر عن أنها قد تجاوزت الحقبة الاستعماريّة، وأن الإرغام يجب أن يغادر علاقات الدول إلى الأبد، ويحلّ محِلّه التعاون. لكنّها في الواقع تصرفت وَفق الثقافة القديمة، التي تقوم على المركزية في الثقافة والاقتصاد والسياسة، وتريد أن تُلحِق الآخرين بها، طوعًا أو كرهًا.
دولة مستقلة تحارب اسرائيل
فقد وجدنا الغرب الرسمي، في الغالب الأعمّ، يتحدث عن الفلسطينيين وكأنهم دولة مستقلة تحارب إسرائيل، وليسوا شعبًا تحت نير الاحتلال، له الحقّ في المقاومة المشروعة، التي تقرّها اتفاقية جنيف، وله الحقّ في رفض السجن الذي يعيش فيه، والتمرّد على أساليب القهر والإفقار بل والعقاب الجماعيّ، الذي تفاقم في الحرب الدائرة حاليًا إلى درجة الإبادة الجماعية.
بل الأدهى من هذا أنَّنا وجدنا الغربَ وكأنه لم يخرج بعد من الإنشاءات والحكايات المزيفة التي صيغت أيام حروب الفرنجة، أو ما تسمّى بـ “الحروب الصليبية”. لقد جاء الملوك غزاة طامعين يزعمون حماية مسيحيي الشرق، ثم آذوهم مع المسلمين. ونسجت أساطير، سكنت الكتب، ثم رؤوس الناس. ورغم تقدّم الغرب علميًا ومنهجيًا، تأتي الأزمات لتبين أنّ الأغلبية وفيّةٌ لهذا الإرث الاستعماري.
إنّ الجمهور الأوروبي القُحّ، الذي شارك العرب والمسلمين المجنّسين والمقيمين في دول أوروبا مساندة الفلسطينيين، لم يخضع لهذا الإنشاء التاريخي غالبًا، أو هو على وعي بفظائع الحقبة الاستعماريّة الحديثة، أو هو ممتثل لنزعة إنسانية تدفعه إلى الدفاع عن المظلوم. لكن هؤلاء لا يمنعون وجود الذين يتصرّفون وكأننا لا نزال نعيش في زمن الاستعمار التقليدي، وينتشرون في المؤسسات السياسية، والدوائر الدبلوماسية، والمنابر الإعلامية، ولهم بالطبع الغلَبة والنفوذ الأوسع.
على هذا الأساس يمكن أنّ نقسم المتفاعلين في العالم مع ما يجري في غزة إلى صنفين: الأول هو من يرفض عودة الاحتلال التقليدي أو بقاءَه، ويعرف كم هو بغيض، والثاني هو من يتساوق معه، ولا يرى أي غضاضة فيه. ولعل واحدة من مكاسب هذه الحرب أن أتباع الصنف الأول يزداد عددهم وتأثيرهم تباعًا، ما يمنح الفلسطينيين تعاطفًا غربيًا كانوا في أشدّ الحاجة إليه.
Source link