مؤلف “من يمتلك حق الجسد”: السلطوية قد تكون نيوليبرالية والجسد منبوذ في عينها | ثقافة
[ad_1]
رغم صغر سنه تحول الكاتب والباحث المصري أحمد عبد الحليم إلى أحد الوجوه الجديدة المهمة داخل المشهد الثقافي العربي، وتعد مؤلفاته قليلة من حيث الكم وغنية من حيث النوعية.
إذ يستغرب المرء كيف لكاتب بعمر 28 عاما، أن يكتب بتلك الطريقة المدهشة التي يسعى من خلالها جاهدا إلى الحفر في قضايا فكرية ظلت في حكم اللامفكر فيه داخل الثقافة العربية المعاصرة، بحكم أنه طرق في كتاباته الأخيرة قضية فكرية شائكة لم تعهدها الثقافة العربية بعد.
بل إنه حاول عبر دراسات الكتاب أن يقوم بنوع من التأصيل الفكري الذي سيجعل الموضوع مألوفا ومستساغا داخل الفكر العربي المعاصر. وإن كان موضوع السجن قد استنفد مادته على مستوى التفكير والكتابة داخل الأدبيات الفلسفية المعاصرة، فإنّه ما يزال في العالم العربي محكوما عليه بالنسيان.
بل إنّ صاحب كتاب “من يمتلك حق الجسد: قراءة في الحياة السجنية” يُسلّط الضوء على عدّة مفاهيم ذات علاقة بحياتنا اليوم كما نعيشها. وإذا كان الكتاب ينطلق من تجربة شخصية، فقد كان حريصا على أن يأخذ شكل الكتابة طابعا فكريا جدليا، يستكنه به عوالم فضاء السجن في علاقته بالأجساد. من ثم، كان لزاما عليه أن يعمل على تشريح دقيق لمفهوم الجسد من خلال مجموع تمثلاته داخل فضاء السجن، وذلك في علاقته بمفهوم الجنسانية، وما يطرحانه من أسئلة عميقة مرتبطة بتحولات الجسد في الحقبة المعاصرة.
عن مضامين الكتاب وعوالمه الفكرية، وصولا إلى أهمية موضوع الجسد وما يطرحه من أسئلة شائكة داخل الفكر العربي المعاصر، كان للجزيرة نت هذا الحوار مع الكاتب والباحث المصري أحمد عبد الحليم:
الفضاء والجسد
-
إلى أي حد ساهم السجن في ارتفاع منسوب الوعي بحساسية هذا الفضاء ومدى تأثيره على أجساد السجناء خلال فُسحة وجودهم؟
لم يرفع السجن مدى الوعي حول فضاء السجن فحسب، بل امتدّ الوعي إلى فضاءات كثيرة. عبر السجن، خاصة في مصر، يتعرّف الإنسان على الدولة ومؤسساتها الواسعة كمّا وكيفا، يرى، عبر التجربة، كيف تشتغل الدولة المصرية يوما بعد يوم، يرى كيف تعامل مواطنيها وأجسادهم، عبر الاستبعاد والنبذ والامتلاك.
لذلك كانت تجربة السجن، بالنسبة لي، هي التجربة التي غيّرت، بل وشكلت من جديد، مدارات أفكاري، حول الذات والجسد والمعرفة والسُلطة والسياسة والثورة والمجتمع والمؤسسات وأشياء أُخرى.
-
في نظرك، كيف يمكن للعلوم الإنسانية ونظيرتها الاجتماعية أن تساهم في إغناء هذا الحقل المعرفي الذي لم يأخذ حقه من ناحية التفكير والدراسة والتحليل، رغم أنه موضوع سبق عرضه في الفكر الفلسفي المعاصر خاصة بعد ثورات فرنسا عام 1968؟
برأيي، مؤخرا قد نالت الأكاديمية العربية سواء الرسمية أو غيرها من مؤسسات معرفية قدرا جيدا من الاهتمام بدراسات الجسد، وذلك بعد حركة الترجمة النشطة التي تقوم بها بعض من مراكز أبحاث الفكر ودور النشر، والتي ساهمت في نقل وترجمة نظريات وأفكار حول الجسد والمعرفة والسلطة، لفلاسفة وأساتذة، مثل بيير بورديو وجورجيو أغامبين ومارسيل موس ودافيد لو بروتون وبيونغ تشول هان وميرلو بونتي وإلزا دورلين و إيرفنغ غوفمان ومن قبلهم ميشيل فوكو وبراين ترنر وغيرهم.
كما يشتغل المؤرخ المصري خالد فهمي على الجسد وعلاقته بالسُلطة وتطورها من خلال دراسة وتحليل بناء الدولة المصرية الحديثة، مثلما فعل في عمله الأخير المترجم عن دار الشروق (مصر 2022) المعنون تحت “السعي للعدالة: الطب والفقه والسياسة في مصر الحديثة”، وتكمن أهمية أعمال فهمي ومِثلها، في أنها، نابعة من أساتذة عرب، تحاول فهم علاقة الجسد بالسُلطة والمعرفة من خلال قراءات تاريخية حية لمجتمعاتنا العربية، وهذا يُصوّب الدقة بشكل أكبر مقارنة باستدعاء النظريات الغربية، والتي هي نابعة من مُنظري غربيين، هم أَسرى -بشكل أو بآخر- تجاربهم ضمن تاريخ مجتمعاتهم الغربية.
أسئلة الفكر العربي
-
هل تعتقد أن الفكر العربي المعاصر، ما يزال يعيش نوعا من الرجعية الفكرية التي تجعله يُكرّر التفكير في موضوعات لا علاقة لها بالواقع العربي اليوم؟
توجد حركة دينامية في تطور المعرفة ونقدها في منطقتنا العربية، حيث أرى أنه بالفعل، توجد مؤسسات تعمل في إنتاج معرفة عربية تواكب الواقع. لكن، مع الأسف في نفس الوقت، تعيش الحركة الثقافية تحت واقع استبدادي سلطوي، وهذا ما يجعلها تقف محلها، بل حتى تتراجع إلى الوراء. وهذا أمر نسبي يصعب قياسه، لكن ما هو مؤكد، أن إنتاج المعرفة الحقيقية التي تتقدم بها المجتمعات والأمم، تتناسب طرديا مع حجم الحرية التي تعيشها الحركة الثقافية والمجتمعات، فالاستبداد هو مؤذّن لخراب الثقافة والأخلاق والحاضر والمستقبل.
توجد مؤسسات تعمل في إنتاج معرفة عربية تواكب الواقع. لكن، مع الأسف في نفس الوقت، تعيش الحركة الثقافية تحت واقع استبدادي سلطوي، وهذا ما يجعلها تقف محلها، بل حتى تتراجع إلى الوراء.
-
رغم المكانة التي بات يحتلّها هذا الفكر في دينامية ونسيج الفكر المعاصر، ما تزال موضوعات الجسد ومدى تمثلاته داخل الفنون البصرية المعاصرة غائبة بشكل كامل في الإنتاج الفكري العربي. هل تعتقد أنّ هذا الأمر عادي؟
مسألة الجسد داخل الفنون المرئية العربية تحتاج إلى مزيد من التدقيق والدراسة، إذ أرى من خلال متابعتي، أن الجسد، بالفعل، أخذا حيزا كبيرا في كثير من الأعمال الفنية سواء في السينما أو الدراما أو حتى المسرح، لكن تلك الأعمال لم تأخذ قدرا كبيرا من التحليل والتفكيك من قِبل نقاد الفن؛ إذ تجد نظريات الفرنسي بيير بورديو وإرفينغ غوفمان عن الجسد كـ”رأس مال رمزي”، موجودة في قلب أعمال نجيب محفوظ السينمائية، مثل فيلم “الشيطان يعظ” (1981) و”سَمارة الأمير” (1992).
كذلك في أعمال المخرج المصري خالد يوسف، مثل فيلميّ “كلمني شكرا” (2010) و”حين ميسرة” (2007)، وكما في فيلم المخرج المصري محمد أمين، مثل فيلم “فبراير الأسود” (2014). وكثير من أعمال مصرية، ممتدة من الستينيات حتى وقتنا الحالي، صنعتها أسماء فنية، مثل إحسان عبد القدوس وصلاح أبو سيف وحيد حامد وسمير سيف وعاطف الطيب وداود عبد السيد وأسامة فوزي ومصطفى ذكري وغيرهم الكثير.
حتى في الفيلم العربي للمخرجة التونسية كوثر بن هنية، والذي كان عنوانه وقصته، تتحدث بشكل صريح عن الجسد، وهو فيلم “الرجل الذي باع ظهره” (2020)، حيث صور الفيلم الجسد كسلعة فنية تعرض وتُؤجر وتُباع في المتاحف والمعارض.
ورغم هذا، لم ينل الفيلم نقدا واشتباكا فنيا حول الجسد وعلاقته برأس المال في الواقع الحالي. إذ وُجد الجسد داخل الفن، لكن لم يوجد نقد واشتباك جاد حول الموضوع ذاته. ومن هنا نرى حضور الجسد في الأعمال الفنية المرئية العربية، لكن يوجد غياب للاشتباك النقدي والتحليلي حيال علاقة الجسد في الفن العربي. وربما في الحاضر القريب، أحاول الاقتراب والاشتباك في هذا الحقل المعرفي والبحثي.
السلطوية التي تشكل الجسد، ليست بالضرورة يجب أن تكون سلطوية سجنية، بل ربما تكون سلطوية نيوليبرالية، تشكّل الجسد وفقا لرؤيتها في فضاءاتها المختلفة، مثل الحفلات ومراكز التسوق وشركات العمل والإنتاج.
عن الجسد والمتخيل
-
صدر لك هذه الأيام مؤلف آخر بعنوان “تمثلات المجتمع المصري في الذات والجسد والهوية”. ما حدود التقاطع والتلاقي بينهما؟
الكتاب مقسم لـ5 فصول. الفصل الرابع، أتناول فيه تمثلات الجسد في المجتمع المصري، في السلطة والبطولة والنبذ والموت. في هذا الفصل خرجتُ بالجسد إلى فضاءات مختلفة مثل رأس المال والنيوليبرالية والتقنية. وحاولت إيضاح ما وراء تمثلات الجسد المتقاطعة والمتباينة. وهنا جاءت أوجه التقاطع من خلال تبيان أن السلطوية التي تُشكّل الجسد، ليست بالضرورة يجب أن تكون سُلطوية سجنية، بل ربما تكون سلطوية نيوليبرالية، تشكّل الجسد وفقا لرؤيتها في فضاءاتها المختلفة، مثل الحفلات ومراكز التسوق وشركات العمل والإنتاج.
كما تناولت في هذا الفصل، كيف يصبح الجسد منبوذا في عين السلطوية السياسية، كما الجسد ما بعد الموت. وفي الوقت الحالي، أعمل على مشروع “كتاب” عن علاقة الجسد بالسياسة في مصر الحديثة، تحديدا مصر ما بعد سلطوية الثالث من يوليو/تموز 2013.
الهوية المصرية وسردياتها المتداخلة والمتباينة شهدت انكماشا وامتدادا وتقاطعات مختلفة على مرّ القرنين الماضيين.
-
إذا ما أردنا استعادة وعرض عنوان الكتاب، كيف تمثّل الاجتماع المصري داخل الجسد والهوية؟
سأبدأ بالهوية، الهوية المصرية وسردياتها المتداخلة والمتباينة شهدت انكماشا وامتدادا وتقاطعات مُختلفة على مرّ القرنين الماضيين، وتحديدا القرن الـ20. السرديات الفكرية الكبرى، الإسلام بتنوعاته المختلفة، الحركية، السياسية منها والدعوية، اليسار بكافة اختلافاته وانشقاقاته، العروبة والقومية، الليبرالية والعلمانية.
من حيث الهُوية، شهد تمثيلها في المجتمع المصري ما بعد 2013، انكماشا ومواتا حادا، بسبب النظام السياسي المصري الذي انقلب على الثورة، وأمات السياسة وسردياتها الفكرية، ووضع سردية الاستثناء (القمع) كمرجعية لحكمه السلطوي.
تمثل المجتمع المصري بتيه من حيث الهُوية والانتماء، عكس ما كانت عليه فئات مجتمعية كثيرة قبل 2013. هذا التيه انعكس على الجسد، بشكل أو بآخر، إذ باتت مظهرية الجسد ذاتها فاقدة للهوية، بل وخاضعة لتشكل هويّات جديدة، تحت مسمّيات السوق والاستهلاك والتقنية والعرض والطلب وغير ذلك.
وهنا تمثل المجتمع المصري بتيه من حيث الهُوية والانتماء، عكس ما كانت عليه فئات مجتمعية كثيرة قبل 2013. هذا التيه انعكس على الجسد، بشكل أو بآخر، إذ باتت مظهرية الجسد ذاتها فاقدة للهوية، بل وخاضعة لتشكل هويّات جديدة، تحت مسمّيات السوق والاستهلاك والتقنية والعرض والطلب وغير ذلك. لذا وُجدتْ علاقة قوية بين الجسد وتمثيله والهوية وتمثيلها داخل المجتمع المصري.
-
ما مشاريعك القادمة في البحث والكتابة؟
في الوقت الحالي أعمل على 3 مشاريع؛ الأول هو كتاب “الجسد وتمثيله: من السياسة إلى الاستهلاك”، وهو عنوان أولي وليس نهائيا. أحاول فيه عرض نقاش عن علاقة الجسد والسلطة خارج الفضاء السجني، مُتّخذا بداية حكم محمد علي لمصر (1805) سياقا تاريخيا وفلسفيا، ومركّزا على سلطة ما بعد الثالث من يوليو/تموز 2013. كما أبحث في انتقال الجسد وتمثيله من السياسي إلى الاستهلاكي.
أما الثاني فهو نقل كتاب “من يمتلك حق الجسد”، من العربية إلى الإنكليزية. أما الثالث فأدبي، رواية “التابع وسليمان: رواية للآخر”، وهو عنوان أولي أيضا. وتُحاكي الرواية قصة حياة أحد التابعين في مصر، والتابع هنا أقصد به تعريف غرامشي، أي الذي لا ينتمي إلى فئات حزبية أو فكرية أو سياسية. وأتمنّى أن أُتمّ نشر هذه المشاريع الثلاثة بحلول نهاية عام 2023.
Source link